بسم الله الرحمن
الرحيم
مهام
المعلم
الحمد لله الذي شـرف من يشـاء من عباده المؤمنين، بأن
شملهم بقول خـير المرسلين : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، فجعلهم من
خدام القرآن وحامليه ، ومتعلميه ومعلميه ، ومحبيه ومتبعيه ، وحـافظيه ومتقنيه يبشرون به العامل ، ويوقظون به الخامل ،
ويجيبون به السائل ، يعلمونه الصغار ، ويقرئونه الكبار ، وينشرونه في سائـر
الأمصار ، ويقومون به الليل والنهار ، يرجـون به وجه الواحـد القهار ، العزيز
الغفار .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
مهما استفحلت علل الأمم ففي كتاب الله
شفاؤها . ومهما تراكمت غياهب الظلم ففي نور القـرآن جلاؤها ومهما ران على القلوب ففي آي الذكر الحكيم
نقاؤها وصفاؤها .
وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ، صـلوات الله علـى الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والأسوة المرتضاة ،
وسلم تسليماً كثيراً ما سجدت لله جباه ، وترنمت بذكره شفاه .
وبعد …
إن معلم القرآن هو تاج رأسنا ، وغرة جبيننا ، فالآمال عليه معقودة ،
والأنظار إليه مصوبة ، فأردتُ أن يكون هذا الحديث معه حباً صافياً ، ونصحاً خالصاً
، ليعتز برسالته ، ويقوم بمهمته .
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{
خيركم من تعلم القرآن وعلمه } ([1]) وتلك شهادة ممن لا
ينطق عن الهوى تفيد أن متعلم القرآن ومعلمه هو خير زمانه ، وأفضل عصره .
ولا أكبر من مهمة إرجاع أمة بأسرها ، إلى
كتاب الله ، ولا يفترض أن يكون أكبر همة ، ولا أوفر عزمة ممن شهد له بالخيرية ،
واستضاء باطنه بالأضواء الربانية .
المعلم هو الأهم : لأن كل إنسان يحتاج أن يكون معلماً ولو لبعض الأحيان وهو
في بيته ، أو في الشارع ، أو في المسجد ، لذلك قيل هي مهنة من لا مهنة له ، وليس
كل إنسان في حاجة أن يكون مديراً ، أو طبيباً ، أو مهندساً
لأن المعلم هو الشخص الذي سيتولى تنفيذ التعليمات والقرارات والعمل
بالتعميمات ، والمتابعة المباشرة للطالب
ومواجهة المشكلات ، ولن يستطيعها إلا معلم ناجح ، حدد مهمته ، وحمل رسالته
، وعرف وجهته .
إن حامل القرآن هو صنعة الله في أرضه ، ومنحته لخلقه ، قال تعالى : [
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتـُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
وَبِمـَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ] ([2]) قـال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو رزين وغير واحد : { ربانيين
: أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن : فقهاء ، بما كنتم تعلمون : من التعليم } .
معلم القرآن هو فارس الميدان ،
وبطل الحلبة ، وقائد المعمعة ، وطبيب المصحـة ، الذي يعايش الطالب ويسمعه ، ويرقبه
، ويشهد تصرفاته ، ويعرف مستـواه ، ويتابع أحواله ، ويؤثر فيه ويعرف مواطن الخلل
فيه فيصف الدواء بحكمته ، ويستأصل الداء
بمهارته ، بعد فضل الله وتوفيقه .
تعليـــم
القـــــرآن
أ _ شرف هذا العمل :
ليس هناك أشرف ولا أفضل ولا
أسمى من عمل ، كلام الله مادته ، وبيت الله مكانه ، وحـامل كـلام الله معلمـه ،
وقلـوب يـانعة ونفـوس طاهـرة تلامـذته ، تتوافر فيه الطهارة الحسيـة والمعنوية ،
وتنقطع فيه العلاقة بالأمـور الدنيويـة وكفـى قول الحبيب المصطفى صلـى الله عليـه
وسلـم قوله : [ إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى
الحوت ، ليصلون على معلم الناس الخير ] ([3]) .
ذكر النووي _ رحمه الله _ قوله
: [ وأعلم أن المذهب الصحيح الذي عليه يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل
التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ، والله أعلم ] ([4]) .
فليس أفضـل من متجرد محتسب حبس نفسه ، وأقعد جسمه ، يذكِّر بالقيم الخـالدة
، ويغرس المبادئ الطاهرة ، ويسكب النور في قلوب الشباب ، يضيء جوانحهم ، وينير
حياتهم ، ويبارك عمرهم ، ويرقى بهم من سفوح البهيمية ، إلى ذرا الطهر والنورانية .
ب _ العوامل الدافعة لإتقان العمل ، وإعطائه حقه :
1_ تقوى الله تعالى ومراقبته :
بأن يستشعر المعلم قول الله سبحانه :[ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ]([5]) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { إنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة إلا
من أخذها وأدى الذي عليه فيها }([6]) ، وقول سلمان رضي الله عنه : { اتق الله عند همك إذا هممت ، وحكمك إذا حكمت
، ويدك إذا قسمت }([7]) ،
هذا الشعور لو سيطر على إحساس
المعلم ، وألهب مشاعره ، سيدفعه إلى بذل المزيد ، واقتراح الجديد ، والنهوض بطلابه
في مسيرة حفظهم لكلام ربهم .
2_ إدراك شرف هذا العمل : فلا يغيب عن ذهن المعلم أبداً (خيركـم من تعلم القرآن وعلمـه) ، ولا يغفـل
عن قوله : { من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت } ([8]) .
فإذا أدرك شرف عمله كان على مستواه ، ومن أدرك شرف الكتاب الذي يحمله كان
على قدره خلقاً ومنهجاً .
أمـا يوم يحقر المعلم نفسه ،
ويرى عمله دون الأعمال ، ويرى نفسه أقل من الناس ، ولا يبصر جلال رسالته ولا شرف مهنته ، ولا يرى أنه _ حقاً _ على
ميراث الرسول ، وأنه عن تبليغه وتعليمه مسؤول ، وأنه حامل النور إلى القلوب
والعقول ، فإذا وقع في ذلك فقد تمت هزيمته ، وفشلت مهمته .
3_ فهمه للواقع المحيط به : فمعلم القرآن أمل أمته البسام ، وفجرها الوليد ، وفهمه لحاضر أمته ، وما
تُستَهدف به حتى تنصرف عن كتاب ربها ، يجعلـه يستميت في رسالته ، ويتفانى في مهمته
، فهل يدرك معلم القرآن [ أن جيلاً مسحوراً بدأ يطفو على سطح الحياة ، في مختلف
بقاع الأرض ، ومنها بلا شك بلاد الشعـوب الإسلامية
هذا الجيل بهرته الأضواء المرتعشة فتهاوى فيها كما يتهاوى الفراش في النار
الموقدة ، في الليل البهيم ] ([9]) .
فإليك يا حامل الذكر الحكيم ،
ويا معلم القرآن الكريم :
يا من إلى الله تدعو
لك المدائح تترى إنا نعيش بعصر الخير فيه توارى وكم رأينا شباباً عن الهدى قد تخلى ويلبسون ثياباً لا يستر الثوب جسماً |
|
وترتجي منه أجرا
شعراً وإن شئت نثرا يموج ظلماً ونكرا وأنت بالعصر أدرى في لجة الغي سكرى وقال قد عشت حرا ويطلب الجسم سترا من الحياء تعرى |
فاستنقذ من استطعت ، وافهم واقع أمتك .
فانتشل أبناء المسلمين من هوة الضياع ، من أزقة الدنيا ، وشوارع الهوى ،
ومن نواصي الحياة ، وأجمعهم على مائدة القرآن بشوق ولهف ، وحب وشغف .
فإذا أدركت ذلك كلـه سيشتد
عزمك ، ويتضاعف همك ، ولن يبقـى لديك وقت لتشكـو من طلابك ، لأن وقتك كله قد
استنفـذ في استنقاذهم ، والأخذ بأيديهم .
4_ بعد النظر وعمق البصيرة : فالصغير الذي أمامك سيغدو عما قريب رجلاً .
والمراهق الذي أزعجك قد يكون في قادم الأيام بطلاً .
فلا تقف بفكرك عند حاله اليوم
، ولكن تخيله غداً ، فهذا يجدد أملك ، ويضاعف صبرك ، فتمهل ، ولا تتعجل ودائما تأمل قول من سبقك :
فلا تيأس فلرب قطرة تغدو بحرا عميقا ، ولرب كلمة تعيد إلى قدمه طريقاً ،
والبذرة التي أودعتها تربتها لو لم تتهيأ لها عوامل الإنبات اليوم ، ستبقى مخبوءة
حتى تتهيأ لها تلك العوامل ، وتشق طريقها إلى عالم الأحياء ، بإذن فالق الحب
والنوى .
5_ هم يصبحه ويمسيه : فالفرق بين حامل الرسالة وصاحب الأمانة ، كالفرق بين
النائحة الثكلى والأخرى المستأجرة
لقد كـان الأنبيـاء منتهى
أملهـم أن يُخلَّـي بينهم وبين النـاس ، والمعـلم _ ولله الحمد _ قد خُلي بينـه
وبين طلابه ، فمـاذا هو فاعل ، وماذا هو إذا لم يحسن استغلال الفرص لربه قائـل ؟!
.
الآن بين يديـك قلوب عطشى ،
وأرواح ولـهى ، وعقـول حيرى ، فاسكب _ يا رعاك الله _ فيها أنوار ما تحمله ، وارو
غليلها بفيض ما ترتله .
فَفَجِّر في قلبك بركان
الغيرة ، واحمل هموم جيل يعاني من الحيرة ، قال جعفر بن سليمان : [ سمعت مالك بن
دينار يقول : لو استطعت ألا أنام لم أنم مخافة أن ينـزل العـذاب وأنـا نـائم ، ولو
وجـدت أتباعاً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها : النـار النـار ] ([10]) .
فيا من حملت الكتاب المنـزل
على محمد ، هذه حياة محمد ، ويا من أخذت ميراثه فهذه تركته ، فاحمل وتحمل وغير مفاهيم نفسك يتغير كل ما حولك .
ج _ شخصية معلم كتاب الله تعالى :
المقصود بشخصية معلم القرآن : انسجام مجموعة صفات وسمات مع بعضها البعض
لتميزه عن غيره ، وإذا كـانت الإنس والجن قد انبهروا بسماع القرآن ، حُقَّ لمن يرى
حامله ومعلمه أن ينبهر به وبشخصيته وسلوكه .
ولهذه الشخصية مقومات تقوم عليها
1_ مقومات عقدية :
فيشترط أن يكون معلم القرآن
سلفيَّ العقيدة ، سُنيَّ المنهج ، يلتزم بالفرائض والواجبات ، ويجمل به أن يأتي
بالنوافل والمستحبات ، حتى يخاطب طلابه بفعاله قبل مقاله ، وحتى يستفيد الطلاب
بلحظه قبل لفظه ، وبرؤيته قبل روايته ، وبصمته قبل كلامه .
2_ مقومات سلوكية أخلاقية :
فيتصف بأخلاق الصلحاء من زهد ،
وترفع ، وتعفف ، وقناعة ، فيزهد فيما عند الناس ، ليطمح الناس فيما عنده
والناس جبلوا على أن من نظر
لما في أيديهم يزهدون فيه والعكس صحيح .
ولصـاحب القرآن ومعلمـه أن
يختار نهجه ويبني لنفسه في نفوس من حوله احتراماً وتقديراً .
ومن المقومات الأخلاقية تفقد أحوال طلابه ، ومعرفة أخبارهـم ، قال ابن
جمـاعة : [ وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة غيابا زائداً عن العادة ، سأل
عنه ،وعن أحواله ، وعـن ما يتعلـق به ، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد
منزله بنفسه وهو أفضل ، فإن كان مريضاً عادة ، وإن كان في غم خفف عنه ] ([11])
ومن المقومات الأخلاقية تجنب مواضع التهم حتى لا يساء به الظن ، وفي
قوله صلى الله عليه وسلم : [ … إنها صفية ] ([12]) ، أعظم الأسوة ، وأفضل القدوة .
فيجب أن يدرك معلم القرآن أن
صمته تعليم ، ونطقه تعليم ، وجلوسه تعليم ، وتعليمه تعليم ، وهذا عمرو بن عتبة
يقول لمعلم ولده : [ ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسـك ، فإن عيونهم معقودة
عليك ، فالحسـن عندهم ما فعلت ، والقبيح ما تركت ] ([13]) .
3_ مقومات تتعلق بالمظهر :
منها : خلو الجسم من الأمراض
المعدية ، أو العوائق الشديدة التي تمنع من القيام بالعمل ، ومنها : سلامة
الصوت وخلوه من عيوب النطق كالفأفأة ،
والتأتأة ، وحبس اللسان ، وضعف الصوت .
ومنها : المظهر الحسن ،
والملبس النظيف ، والهندام الطيب ، والرائحة الزكية ، فاللباس من أول الأشياء التي
تعطي انطباعا للآخرين عن لابسه مبدأيا ، فليراع لونه ، وبساطته ، ونظافته ،
وتناسقه ، وقبل هذا كله شرعيته مع أناقة غير مبالغ فيها .
4_ مقومات مهنية :
من حفظ للقرآن كاملاً ، مجوداً
، إذ لا يليق أن يطالب غيره بما لم يلزم به نفسه .
ومنها : حسن التصرف في المواقف
بلباقة اجتماعية ، وحضور سريع .
ومنها حسن التعاون مع الإدارة
حتى تتناغم الجهود ولا يعاكس بعضها بعضاً ، فالمطلوب التناغم لا التصادم والتآزر لا التناحر .
5_ الملامح :
وتشمل نبرات الصوت ، وتعابير
الوجه .
أ_ الصوت : إن
الكلام هو وسيلة الاتصال ، وهل كانت معجزة القرآن الكريم التي خضعت لها رقاب العرب
إلا في البلاغة والفصاحة ؟! ولقد أجرى العلماء أبحاثا وخرجوا بنتائج منها : أن
نسبة تأثير الكلمات والعبارات في المستمع 7 % ، ونبرات الصوت 38 % ،
بينما تعابير الوجه والجسم والعيون 55 % .
ب_ الوجه : البر شيء
هين ؛ وجه طليق ؛ وكلام لين . فالتجهم والعبوس يمثل حواجز عالية بين المعلم
وطلابه وينسف جسور المودة ، والوجه هو
مرآة صاحبه ، قال سبحانه : [تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ
] ([14]) ، وقـال صلى الله عليه وسلم : [ تبسمك في وجه
أخيك صدقة ] .
فليتصدق المعلم على طلابه
وليوقن أن طالبه قبل أن يقرأ عليه آيات ربه ، يقرأ أولاً ملامح وجهه ، وسطور جبينه
.
وليحذر المعلـم من ابتسامـة
ساخـرة تخرج ميتة فتصيب الآخـرين بالإحباط والصدود .
6_ التجربة :
المعلم الناجح يبدأ من حيث
انتهى الآخرون ، ويستفيد بما مر به المعلمون ، فهو دائم السؤال لغيره ، ودائم
الاتصال بزملائه ، يسأل عن موقف مشابه كيف تصرفوا فيه ، وعن مشكلة قريبة كيف
تغلبوا عليها .
فالخبرة في عالم الواقع من
خلال تجربة أبلغ من التعاميم النظرية ، أو التعليمات الإدارية ، ويوم تنقل الخبرات
أو التجارب من معلم إلى معلم أو من حلقة إلى حلقة فهي بمثابة شرايين تضخ في جسم
العمل كله .
فالسؤال عن التجربة تجرد
وتواضع ، وحرص وجهد واجتهاد ، وسعي للأفضل . وإهداء التجربة سمو ، وإخلاص وحكمة ، وفهم ، وبصيرة .
وبالعموم فإن البحث عن التجربة
من المقومات الأساسية للشخصية السـوية .
خامســــــاً :
التجديـــــــد
1_ تجديد الإخلاص :
ليبقى العمل خالصا لمولاه ،
فيوبخ النفس ، ويلومها لوما شديداً :
[ ويحك يـا نفس احرصي على ارتيـاد الـمَخْلَصِ
وطـاوعي وأخلصـي واستمعي النصح وعي
2_ تجديد الإيمان :
حتى يحافظ على أن [ ينبعث في
قلبه الافتقار الحقيقي لا العلمي المجرد ، إلى ملهم الصواب ، ومعلم الخير ، وهادي
القلوب ، أن يلهمه الصواب ، ويفتح له طريق السداد ، فمتى قرع الباب فقد قرع باب
التوفيق ، وما أجدر من أمل فضل ربه ألا يحرمه إياه ] ([15]) .
3_ تجديد الطريقة ( الإبداع ) :
ومعنى الإبداع قدرة الفرد على
التفكير الذي يمكنه من تجاوز المشكلات والمواقف الغامضة وتقديم البدائل
الجديدة والخروج على المألوف .
ومعلـم القرآن يجب أن
يكون أحرص الناس على التجديـد والتصـرف حسب الموقف ، وابتكار أسلوب لكل موقف .
ومن عوامل نجاح المعلم حرصه
على تجديد طريقته وأسلوبه ، حتى وضع حلقته ، وطريقة الدرس … إلخ .
4_ رفع مستواه :
همة وحرص وتوثب وإصرار وعزيمة
، كلها كفيلة برفع مستوى الحفظ والقراءة والأسلوب والطريقة .
ووالله لا يستوي حامل هم ، وطاعم فم . ولا يستوي من يجري وراء الفكرة ،
ويركض خلف الخبرة ، ويلهث بحثاً عن التجربة ، ويحمل حلقته معه إلى منـزله وإن
تركها ، ومن لا يذكرها إلا حينما يسند ظهره إلى سارية المسجد ، إن ذكرها ، لا
يستوي الرجلان ، ولا يستوي الفكران ، فهذا متجدد ، وهذا آسن ، وهذا متدفق ، وهذا
راكد ، وهذا متطور ، وهذا جامد . ولا يليق أن يكون كـل شيء حول المعلم في نماء ،
وهـو على حالته ، لم يزد ولم يسع
للارتقاء .
سادساً : الكفايات التدريسية
وفيها خمسة محاور :
المحور الأول : كفاية التخطيط والإعداد :
وتشتمل على :
أ_ الإعداد الذهني للدرس : وتخيل ما فيه ، حتى لا يكون الأمر عشوائياً ، وتحديد الأهداف التي يريد
تحقيقها من وراء هذا الدرس إن كان درس قرآن أو تجويد .
ب_ الإعـداد العلمي : قراءة
الآيات التي سيلقيها أو يسمِّعها اليوم _ مراجعة بعض المعاني مما يحتاج أن يوضحه _
تحضير درس التجويد الذي يريد شرحه .
المحور الثاني : كفاية التنفيذ :
وتشتمل على :
أ_ عوامل تحفيز الطلاب .
ب_ الوسائل المعينة كالسبورة ، وجهاز مسجل ، وبعض الجوائز والهدايا .
ج_ توظيف البرامج المختلفة لخدمة الأهداف المرجوة .
المحور الثالث : كفاية التقويم :
وهو تقرير ذهني يشتمل على :
هل حقق اليوم هدفه ؟ ، ما إيجابياته وسلبياته ؟ ، قياس مهارات التلاميذ ،
فهذا نابه ، وهذا عاقل ، وهذا مرتب ، وهذا متكلم ، وهذا حسن الصوت … إلخ .
المحور الرابع : كفاية تخصصية :
وتشتمل على :
مدى تأثر المعلم بحلقته ، مدى تنوع مصادر معرفته ، مدى اطلاعه باستمرار ،
مدى مواكبته لما يجد ويستحدث .
المحور الخامس : كفاية إدارة الحلقة :
وتشتمل على :
كيف يتصرف بحلقته ؟ ، كيف ينظمها ؟ ، كيف يديرها بطريقة ودود ؟ ، كيف يوزع
اهتمامه على كل الطلاب ؟ كيف يشعر كل
طـالب أنه الأثير عنده ؟ ، كيف يراعي النوابغ ؟ .
كيف يوصل نصيحة إلى تلميذه في أزهى أثوابها ، وأجمل ألفاظها ، وألطف
معانيها ، فهذا خلق نبوي ، وتعليم محمدي
قال صلى الله عليه وسلم : [ ( لا يقولن أحدكم خبثت نفسـي ، ولكن ليقـل
لَقِسَت نفسي ) ، ويؤخـذ من الحديث : استحبـاب مجانبة الألفاظ القبيحـة ، والعـدول
إلى ما لا قبيـح فيه ، وإن كـان المعنى يتـأدى بكل منهما ] ([16]) .
ولن يحار معلم القرآن في
العثور على عبارة رقيقة ، أو كلمة أنيقة ، مكان الجارح من الألفاظ ، أو الخادش من
العبارات ، فالذي غاب من طلابه يقول له مثلاً : بالأمس أزعجتنا عليك ، والذي لم
يحفظ اليوم يقول له : لقد حرمتنا الاستماع لصوتك ، والذي شوش عليه يقول لزملائه :
أريدكم سكوتاً كفلان ، وخصوصا إذا صاحب ذلك بسمة غير متصنعة ، وإنما في القلب
منشؤها ، وعلى صفحة الوجه مرآها .
ومن كفايات إدارة الحلقة : كيف يلتمس العذر للكرام منهم :
حيث يجتهد أن يدفع عن طالبه موقف
الذل والخذلان ، وله في رسول الله أسوة ، وبه قدوة ، فالصحابة بعد الغزو جاءوا
وقالوا : [ يا رسول الله نحن الفرارون ، قال : بل أنتم العكارون ، وأنا فئتكم ] ([17]) . وقوله : أنا فئتكم : يمهد بذلك عذرهم ([18]) لقوله تعالى : [ أو
متحيزاً إلى فئة ] .
ومن هذه الكفايات : كيف يجدد المعلم مخزون الحب عنده ، ويضمن عدم نفاده ،
حتى يُنـزل طلابه منزلة أولاده ، قال الإمام النووي رحمه الله : [ويجريه – أي
الطالب –مجرى ولده ، في الشفقة عليه ، والصبر على جفائه ، وسوء أدبه ويعذره في سوء أدب ، وجفوة تعرض لك منه ، في
بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ] ([19])
ومن أراد أن يربي
فليوطن نفسه على التغاضي عن بعض الأمور ، ما دام التغاضي حكمة ، وهو نهج نبوي ،
قال تعالى : [ عرف بعضه وأعرض عن بعض ] ، فليلتمس _ المعلم الكريم _ أسلوب النبي
العظيم .
ومن هذه الكفايات :
خلق الرحمة بطالبه وتلميذه :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ أعـز الناس
علي جليسي الذي يتخطى الناس إلي ، أما والله إن الذباب ليقع عليه فيشفق علي ] ][20][ ، فإذا فهم المعلم الكريم هذا فلسوف يشق عليه بل سيؤرقه كل ما يقع على
جليسه _ لا أقول من الذباب فقط _ ولكن من
خطفات الشيطان ، ونزغات الهوى ، وتفريط الأسرة
وفسد الصحبة ، وسوى ذلك .
سابعـــاً : المعلــــم الـــــذي نريــــــد
كريم النفس ، واسع الصدر ،
عظيم الصبر ، متمكناً في قرآنه ، راسخاً في إيمانه ، داعية في سلوكه ، أسوة في
عمله وفي منطوقه ، ويحمل هموم حلقته ، ويفهم واقع أمته
يسعد بتلميذه إذا حفظ آية ،
ويفرح إذا بدت عليه أنوار الهداية ، يدعو لتلميذه بالثبات والصلاح ، والخير
والفلاح ، ولا يتصيد أخطاءه .
المعلم الذي نريد يحزن على
تلميذه ، ولا يحزن منه ، يقدم اللين على الشدة ، والرفق على الحدَّة ، يعاتب
تلميذه بحب ، ويسامحه بمقدرة ، ويعلمه بتجرد .
يدرك قول القائل : خير الناس
من مكنك من نفسه لتزرع فيها خيراً ، فيرى تلميذه خير الناس لأنه مكنه من نفسه
المعلم الذي نريد الذي يفتح
عيادة القرآن وهو طبيبها ، ويرى تلاميذه أصنافاً شتى ، هذا يشكو قسوة قلبه ، وهذا
يشكو ضعف شهيته في حفظه ، وآخر يشكو عسر فهمه ، وآخـر يشكـو صعوبة نطقه ، وآخـر
يشكو شهوة نفسـه ، وآخر يشكـو فسـاد طبعـه ، وأخير يشكو جـمود عينـه ، وكلهـم
يريـد حفظ كلام ربـه .
فيـداويهـم بحكمتـه ، ويوجههـم ببصيرتـه ، ويـرقق قلوبـهم بقراءته ، ويرفع همتهم بهمته ،
ويفجر طاقاتهم بعزيمته .
أخي المعلم : لتكـن أنت القارئ
والمقرئ ، والصالح والمصلح ، والراشد والمرشد
فأمتك اليوم أشد حاجة إليك حيث
عولت عليك ، وأجلست أبناءها بين يديك .
فهنيئـاً لك _ أخـي معلـم
القـرآن _ إن تك كـذلك ، وأعـانك الله إذ تحـاول أن تكـون ، وعفـا عنك فيمـا عجزت
عـن بلـوغه يوم لا ينفع مال ولا بنون .
([1]) رواه البخـاري رقم 5027 في فضـائـل القـرآن ، بـاب خيركم من تعلم القـرآن
وعلمـه ، وأبـو داود رقم 1452 ، في الصلاة ، باب ثواب قراءة القرآن ، والترمذي رقم
2909 في ثواب القرآن
باب ما جاء
في تعليم القرآن ، والدارمي رقم 3341 في فضائل القرآن ، باب خيركم من تعلم القرآن
وعلمه
وابـن
مـاجـة رقـم 211 في المقـدمة ، باب فضـل من تعلـم القرآن وعلمـه ، وأحمـد في
المسند
1/412 ، 413
، 500 ، وصححه الألباني _ رحمه الله _ رقم 1173 .
[4]([4]) انظر التبيـان في آداب حملـة القرآن ، للنووي ، مكتبة البيـان ، دمشق ،
الطبعـة الأولى ، 1412هـ ، 1991م ، صـ 21 .
جزاكم الله خير الجزاء وجعله في ميزان حسناتكم
ردحذفمقالة رااااائعة بارك الله فيك ...
ردحذف