الأربعاء، 16 أغسطس 2017

مهام معلم القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم
مهام المعلم

الحمد لله الذي شـرف من يشـاء من عباده المؤمنين، بأن شملهم بقول خـير المرسلين : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، فجعلهم من خدام القرآن وحامليه ، ومتعلميه ومعلميه ، ومحبيه ومتبعيه ، وحـافظيه ومتقنيه   يبشرون به العامل ، ويوقظون به الخامل ، ويجيبون به السائل ، يعلمونه الصغار ، ويقرئونه الكبار ، وينشرونه في سائـر الأمصار ، ويقومون به الليل والنهار ، يرجـون به وجه الواحـد القهار ، العزيز الغفار .
     وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
     مهما استفحلت علل الأمم ففي كتاب الله شفاؤها . ومهما تراكمت غياهب الظلم ففي نور القـرآن جلاؤها   ومهما ران على القلوب ففي آي الذكر الحكيم نقاؤها وصفاؤها .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صـلوات الله علـى الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والأسوة المرتضاة ، وسلم تسليماً كثيراً ما سجدت لله جباه ، وترنمت بذكره شفاه .
                                       وبعد …


إن معلم القرآن هو تاج رأسنا ، وغرة جبيننا ، فالآمال عليه معقودة ، والأنظار إليه مصوبة ، فأردتُ أن يكون هذا الحديث معه حباً صافياً ، ونصحاً خالصاً ، ليعتز برسالته ، ويقوم بمهمته .
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ خيركم من تعلم القرآن وعلمه } ([1]) وتلك شهادة ممن لا ينطق عن الهوى تفيد أن متعلم القرآن ومعلمه هو خير زمانه ، وأفضل عصره .
     ولا أكبر من مهمة إرجاع أمة بأسرها ، إلى كتاب الله ، ولا يفترض أن يكون أكبر همة ، ولا أوفر عزمة ممن شهد له بالخيرية ، واستضاء باطنه بالأضواء الربانية .
المعلم هو الأهم : لأن كل إنسان يحتاج أن يكون معلماً ولو لبعض الأحيان وهو في بيته ، أو في الشارع ، أو في المسجد ، لذلك قيل هي مهنة من لا مهنة له ، وليس كل إنسان في حاجة أن يكون مديراً ، أو طبيباً ، أو مهندساً  
لأن المعلم هو الشخص الذي سيتولى تنفيذ التعليمات والقرارات والعمل بالتعميمات ، والمتابعة المباشرة للطالب   ومواجهة المشكلات ، ولن يستطيعها إلا معلم ناجح ، حدد مهمته ، وحمل رسالته ، وعرف وجهته .
إن حامل القرآن هو صنعة الله في أرضه ، ومنحته لخلقه ، قال تعالى : [ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتـُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمـَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ] ([2]قـال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو رزين وغير واحد : { ربانيين : أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن : فقهاء ، بما كنتم تعلمون : من التعليم } .
   معلم القرآن هو فارس الميدان ، وبطل الحلبة ، وقائد المعمعة ، وطبيب المصحـة ، الذي يعايش الطالب ويسمعه ، ويرقبه ، ويشهد تصرفاته ، ويعرف مستـواه ، ويتابع أحواله ، ويؤثر فيه ويعرف مواطن الخلل فيه   فيصف الدواء بحكمته ، ويستأصل الداء بمهارته ، بعد فضل الله وتوفيقه .

    
تعليـــم القـــــرآن 
أ _ شرف هذا العمل :
     ليس هناك أشرف ولا أفضل ولا أسمى من عمل ، كلام الله مادته ، وبيت الله مكانه ، وحـامل كـلام الله معلمـه ، وقلـوب يـانعة ونفـوس طاهـرة تلامـذته ، تتوافر فيه الطهارة الحسيـة والمعنوية ، وتنقطع فيه العلاقة بالأمـور الدنيويـة وكفـى قول الحبيب المصطفى صلـى الله عليـه وسلـم قوله : [ إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ، ليصلون على معلم الناس الخير ] ([3]) .
     ذكر النووي _ رحمه الله _ قوله : [ وأعلم أن المذهب الصحيح الذي عليه يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ، والله أعلم ] ([4].
فليس أفضـل من متجرد محتسب حبس نفسه ، وأقعد جسمه ، يذكِّر بالقيم الخـالدة ، ويغرس المبادئ الطاهرة ، ويسكب النور في قلوب الشباب ، يضيء جوانحهم ، وينير حياتهم ، ويبارك عمرهم ، ويرقى بهم من سفوح البهيمية ، إلى ذرا الطهر والنورانية .
ب _ العوامل الدافعة لإتقان العمل ، وإعطائه حقه :
    1_ تقوى الله تعالى ومراقبته : بأن يستشعر المعلم قول الله سبحانه :[ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى    أَهْلِهَا ]([5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { إنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها وأدى الذي عليه فيها }([6]، وقول سلمان رضي الله عنه : { اتق الله عند همك إذا هممت ، وحكمك إذا حكمت ، ويدك إذا    قسمت }([7]) ،
     هذا الشعور لو سيطر على إحساس المعلم ، وألهب مشاعره ، سيدفعه إلى بذل المزيد ، واقتراح الجديد ، والنهوض بطلابه في مسيرة حفظهم لكلام ربهم .
    2_ إدراك شرف هذا العمل : فلا يغيب عن ذهن المعلم أبداً (خيركـم من تعلم القرآن وعلمـه) ، ولا يغفـل عن قوله : { من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت } ([8])    .
فإذا أدرك شرف عمله كان على مستواه ، ومن أدرك شرف الكتاب الذي يحمله كان على قدره خلقاً ومنهجاً .
     أمـا يوم يحقر المعلم نفسه ، ويرى عمله دون الأعمال ، ويرى نفسه أقل من الناس ، ولا يبصر جلال رسالته   ولا شرف مهنته ، ولا يرى أنه _ حقاً _ على ميراث الرسول ، وأنه عن تبليغه وتعليمه مسؤول ، وأنه حامل النور إلى القلوب والعقول ، فإذا وقع في ذلك فقد تمت هزيمته ، وفشلت مهمته .
3_ فهمه للواقع المحيط به : فمعلم القرآن أمل أمته البسام ، وفجرها الوليد ، وفهمه لحاضر أمته ، وما تُستَهدف به حتى تنصرف عن كتاب ربها ، يجعلـه يستميت في رسالته ، ويتفانى في مهمته ، فهل يدرك معلم القرآن [ أن جيلاً مسحوراً بدأ يطفو على سطح الحياة ، في مختلف بقاع الأرض ، ومنها بلا شك بلاد الشعـوب الإسلامية
هذا الجيل بهرته الأضواء المرتعشة فتهاوى فيها كما يتهاوى الفراش في النار الموقدة ، في الليل البهيم ] ([9].
     فإليك يا حامل الذكر الحكيم ، ويا معلم القرآن الكريم :
يا من إلى الله تدعو
لك المدائح تترى
إنا نعيش بعصر
الخير فيه توارى
وكم رأينا شباباً
عن الهدى قد تخلى
ويلبسون ثياباً
لا يستر الثوب جسماً


وترتجي منه أجرا
شعراً وإن شئت نثرا
يموج ظلماً ونكرا
وأنت بالعصر أدرى
في لجة الغي سكرى
وقال قد عشت حرا
ويطلب الجسم سترا
من الحياء تعرى

فاستنقذ من استطعت ، وافهم واقع أمتك .
فانتشل أبناء المسلمين من هوة الضياع ، من أزقة الدنيا ، وشوارع الهوى ، ومن نواصي الحياة ، وأجمعهم على مائدة القرآن بشوق ولهف ، وحب وشغف .
     فإذا أدركت ذلك كلـه سيشتد عزمك ، ويتضاعف همك ، ولن يبقـى لديك وقت لتشكـو من طلابك ، لأن وقتك كله قد استنفـذ في استنقاذهم ، والأخذ بأيديهم .
4_ بعد النظر وعمق البصيرة : فالصغير الذي أمامك سيغدو عما قريب رجلاً . والمراهق الذي أزعجك قد يكون في قادم الأيام بطلاً .
     فلا تقف بفكرك عند حاله اليوم ، ولكن تخيله غداً ، فهذا يجدد أملك ، ويضاعف صبرك ، فتمهل ، ولا تتعجل   ودائما تأمل قول من سبقك :
فلا تيأس فلرب قطرة تغدو بحرا عميقا ، ولرب كلمة تعيد إلى قدمه طريقاً ، والبذرة التي أودعتها تربتها لو لم تتهيأ لها عوامل الإنبات اليوم ، ستبقى مخبوءة حتى تتهيأ لها تلك العوامل ، وتشق طريقها إلى عالم الأحياء ، بإذن فالق الحب والنوى .
5_ هم يصبحه ويمسيه : فالفرق بين حامل الرسالة وصاحب الأمانة ، كالفرق بين النائحة الثكلى والأخرى المستأجرة 
     لقد كـان الأنبيـاء منتهى أملهـم أن يُخلَّـي بينهم وبين النـاس ، والمعـلم _ ولله الحمد _ قد خُلي بينـه وبين طلابه ، فمـاذا هو فاعل ، وماذا هو إذا لم يحسن استغلال الفرص لربه قائـل ؟! .
     الآن بين يديـك قلوب عطشى ، وأرواح ولـهى ، وعقـول حيرى ، فاسكب _ يا رعاك الله _ فيها أنوار ما تحمله ، وارو غليلها بفيض ما ترتله .
          فَفَجِّر في قلبك بركان الغيرة ، واحمل هموم جيل يعاني من الحيرة ، قال جعفر بن سليمان : [ سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنام لم أنم مخافة أن ينـزل العـذاب وأنـا نـائم ، ولو وجـدت أتباعاً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها : النـار النـار ] ([10].
        فيا من حملت الكتاب المنـزل على محمد ، هذه حياة محمد ، ويا من أخذت ميراثه فهذه تركته ، فاحمل وتحمل   وغير مفاهيم نفسك يتغير كل ما حولك .

ج _ شخصية معلم كتاب الله تعالى :
     المقصود بشخصية معلم القرآن : انسجام مجموعة صفات وسمات مع بعضها البعض لتميزه عن غيره ، وإذا كـانت الإنس والجن قد انبهروا بسماع القرآن ، حُقَّ لمن يرى حامله ومعلمه أن ينبهر به وبشخصيته وسلوكه .
ولهذه الشخصية مقومات تقوم عليها 
1_ مقومات عقدية :
     فيشترط أن يكون معلم القرآن سلفيَّ العقيدة ، سُنيَّ المنهج ، يلتزم بالفرائض والواجبات ، ويجمل به أن يأتي بالنوافل والمستحبات ، حتى يخاطب طلابه بفعاله قبل مقاله ، وحتى يستفيد الطلاب بلحظه قبل لفظه ، وبرؤيته قبل روايته ، وبصمته قبل كلامه .
2_ مقومات سلوكية أخلاقية :
     فيتصف بأخلاق الصلحاء من زهد ، وترفع ، وتعفف ، وقناعة ، فيزهد فيما عند الناس ، ليطمح الناس فيما عنده 
     والناس جبلوا على أن من نظر لما في أيديهم يزهدون فيه والعكس صحيح .
     ولصـاحب القرآن ومعلمـه أن يختار نهجه ويبني لنفسه في نفوس من حوله احتراماً وتقديراً .
ومن المقومات الأخلاقية تفقد أحوال طلابه ، ومعرفة أخبارهـم ، قال ابن جمـاعة : [ وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة غيابا زائداً عن العادة ، سأل عنه ،وعن أحواله ، وعـن ما يتعلـق به ، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل ، فإن كان مريضاً عادة ، وإن كان في غم خفف عنه ] ([11])         
ومن المقومات الأخلاقية تجنب مواضع التهم حتى لا يساء به الظن ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم :                    [ … إنها صفية ] ([12])  ، أعظم الأسوة ، وأفضل القدوة .
     فيجب أن يدرك معلم القرآن أن صمته تعليم ، ونطقه تعليم ، وجلوسه تعليم ، وتعليمه تعليم ، وهذا عمرو بن عتبة يقول لمعلم ولده : [ ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسـك ، فإن عيونهم معقودة عليك ، فالحسـن عندهم ما فعلت ، والقبيح ما تركت ] ([13])  .

3_ مقومات تتعلق بالمظهر :   
     منها : خلو الجسم من الأمراض المعدية ، أو العوائق الشديدة التي تمنع من القيام بالعمل ، ومنها : سلامة الصوت   وخلوه من عيوب النطق كالفأفأة ، والتأتأة ، وحبس اللسان ، وضعف الصوت .
     ومنها : المظهر الحسن ، والملبس النظيف ، والهندام الطيب ، والرائحة الزكية ، فاللباس من أول الأشياء التي تعطي انطباعا للآخرين عن لابسه مبدأيا ، فليراع لونه ، وبساطته ، ونظافته ، وتناسقه ، وقبل هذا كله شرعيته مع أناقة غير مبالغ فيها .
4_ مقومات مهنية :
     من حفظ للقرآن كاملاً ، مجوداً ، إذ لا يليق أن يطالب غيره بما لم يلزم به نفسه .    
     ومنها : حسن التصرف في المواقف بلباقة اجتماعية ، وحضور سريع .
     ومنها حسن التعاون مع الإدارة حتى تتناغم الجهود ولا يعاكس بعضها بعضاً ، فالمطلوب التناغم لا التصادم   والتآزر لا التناحر .
5_ الملامح :      
     وتشمل نبرات الصوت ، وتعابير الوجه .
        أ_ الصوت : إن الكلام هو وسيلة الاتصال ، وهل كانت معجزة القرآن الكريم التي خضعت لها رقاب العرب إلا في البلاغة والفصاحة ؟! ولقد أجرى العلماء أبحاثا وخرجوا بنتائج منها : أن نسبة تأثير الكلمات والعبارات في المستمع 7 % ، ونبرات الصوت 38 % ، بينما تعابير الوجه والجسم والعيون 55 % .
        ب_ الوجه : البر شيء هين ؛ وجه طليق ؛ وكلام لين . فالتجهم والعبوس يمثل حواجز عالية بين المعلم وطلابه   وينسف جسور المودة ، والوجه هو مرآة صاحبه ، قال سبحانه : [تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ] ([14])  ، وقـال صلى الله عليه وسلم : [ تبسمك في وجه أخيك صدقة ] .
     فليتصدق المعلم على طلابه وليوقن أن طالبه قبل أن يقرأ عليه آيات ربه ، يقرأ أولاً ملامح وجهه ، وسطور جبينه .
     وليحذر المعلـم من ابتسامـة ساخـرة تخرج ميتة فتصيب الآخـرين بالإحباط والصدود .
6_ التجربة :
     المعلم الناجح يبدأ من حيث انتهى الآخرون ، ويستفيد بما مر به المعلمون ، فهو دائم السؤال لغيره ، ودائم الاتصال بزملائه ، يسأل عن موقف مشابه كيف تصرفوا فيه ، وعن مشكلة قريبة كيف تغلبوا عليها .
     فالخبرة في عالم الواقع من خلال تجربة أبلغ من التعاميم النظرية ، أو التعليمات الإدارية ، ويوم تنقل الخبرات أو التجارب من معلم إلى معلم أو من حلقة إلى حلقة فهي بمثابة شرايين تضخ في جسم العمل كله .
     فالسؤال عن التجربة تجرد وتواضع ، وحرص وجهد واجتهاد ، وسعي للأفضل . وإهداء التجربة سمو ، وإخلاص  وحكمة ، وفهم ، وبصيرة .
     وبالعموم فإن البحث عن التجربة من المقومات الأساسية للشخصية السـوية .

خامســــــاً : التجديـــــــد 
1_ تجديد الإخلاص :
     ليبقى العمل خالصا لمولاه ، فيوبخ النفس ، ويلومها لوما شديداً :
[ ويحك يـا نفس احرصي      على ارتيـاد الـمَخْلَصِ
   وطـاوعي وأخلصـي          واستمعي النصح وعي
  
2_ تجديد الإيمان :
     حتى يحافظ على أن [ ينبعث في قلبه الافتقار الحقيقي لا العلمي المجرد ، إلى ملهم الصواب ، ومعلم الخير ، وهادي القلوب ، أن يلهمه الصواب ، ويفتح له طريق السداد ، فمتى قرع الباب فقد قرع باب التوفيق ، وما أجدر من أمل فضل ربه ألا يحرمه إياه ] ([15])  .
3_ تجديد الطريقة ( الإبداع ) :
     ومعنى الإبداع قدرة الفرد على التفكير الذي يمكنه من تجاوز المشكلات والمواقف الغامضة وتقديم البدائل الجديدة   والخروج على المألوف .
          ومعلـم القرآن يجب أن يكون أحرص الناس على التجديـد والتصـرف حسب الموقف ، وابتكار أسلوب لكل موقف .
     ومن عوامل نجاح المعلم حرصه على تجديد طريقته وأسلوبه ، حتى وضع حلقته ، وطريقة الدرس … إلخ .
4_ رفع مستواه :
     همة وحرص وتوثب وإصرار وعزيمة ، كلها كفيلة برفع مستوى الحفظ والقراءة والأسلوب والطريقة .
ووالله لا يستوي حامل هم ، وطاعم فم . ولا يستوي من يجري وراء الفكرة ، ويركض خلف الخبرة ، ويلهث بحثاً عن التجربة ، ويحمل حلقته معه إلى منـزله وإن تركها ، ومن لا يذكرها إلا حينما يسند ظهره إلى سارية المسجد ، إن ذكرها ، لا يستوي الرجلان ، ولا يستوي الفكران ، فهذا متجدد ، وهذا آسن ، وهذا متدفق ، وهذا راكد ، وهذا متطور ، وهذا جامد . ولا يليق أن يكون كـل شيء حول المعلم في نماء ، وهـو على حالته ، لم يزد   ولم يسع للارتقاء .


سادساً : الكفايات التدريسية 
وفيها خمسة محاور :
المحور الأول : كفاية التخطيط والإعداد :
وتشتمل على :
أ_ الإعداد الذهني للدرس : وتخيل ما فيه ، حتى لا يكون الأمر عشوائياً ، وتحديد الأهداف التي يريد تحقيقها من وراء هذا الدرس إن كان درس قرآن أو تجويد .
ب_ الإعـداد العلمي : قراءة الآيات التي سيلقيها أو يسمِّعها اليوم _ مراجعة بعض المعاني مما يحتاج أن يوضحه _ تحضير درس التجويد الذي يريد شرحه .
المحور الثاني : كفاية التنفيذ :
وتشتمل على :
أ_ عوامل تحفيز الطلاب .
ب_ الوسائل المعينة كالسبورة ، وجهاز مسجل ، وبعض الجوائز والهدايا .
ج_ توظيف البرامج المختلفة لخدمة الأهداف المرجوة .
المحور الثالث : كفاية التقويم :
وهو تقرير ذهني يشتمل على :
هل حقق اليوم هدفه ؟ ، ما إيجابياته وسلبياته ؟ ، قياس مهارات التلاميذ ، فهذا نابه ، وهذا عاقل ، وهذا مرتب ، وهذا متكلم ، وهذا حسن الصوت … إلخ .
المحور الرابع : كفاية تخصصية :
وتشتمل على :
مدى تأثر المعلم بحلقته ، مدى تنوع مصادر معرفته ، مدى اطلاعه باستمرار ، مدى مواكبته لما يجد ويستحدث . 
المحور الخامس : كفاية إدارة الحلقة :
وتشتمل على :
كيف يتصرف بحلقته ؟ ، كيف ينظمها ؟ ، كيف يديرها بطريقة ودود ؟ ، كيف يوزع اهتمامه على كل الطلاب ؟   كيف يشعر كل طـالب أنه الأثير عنده ؟ ، كيف يراعي النوابغ ؟ .
كيف يوصل نصيحة إلى تلميذه في أزهى أثوابها ، وأجمل ألفاظها ، وألطف معانيها ، فهذا خلق نبوي ، وتعليم محمدي   قال صلى الله عليه وسلم : [ ( لا يقولن أحدكم خبثت نفسـي ، ولكن ليقـل لَقِسَت نفسي ) ، ويؤخـذ من الحديث : استحبـاب مجانبة الألفاظ القبيحـة ، والعـدول إلى ما لا قبيـح فيه ، وإن كـان المعنى يتـأدى بكل منهما ] ([16])  .
     ولن يحار معلم القرآن في العثور على عبارة رقيقة ، أو كلمة أنيقة ، مكان الجارح من الألفاظ ، أو الخادش من العبارات ، فالذي غاب من طلابه يقول له مثلاً : بالأمس أزعجتنا عليك ، والذي لم يحفظ اليوم يقول له : لقد حرمتنا الاستماع لصوتك ، والذي شوش عليه يقول لزملائه : أريدكم سكوتاً كفلان ، وخصوصا إذا صاحب ذلك بسمة غير متصنعة ، وإنما في القلب منشؤها ، وعلى صفحة الوجه مرآها .
ومن كفايات إدارة الحلقة : كيف يلتمس العذر للكرام منهم :
     حيث يجتهد أن يدفع عن طالبه موقف الذل والخذلان ، وله في رسول الله أسوة ، وبه قدوة ، فالصحابة بعد الغزو جاءوا وقالوا : [ يا رسول الله نحن الفرارون ، قال : بل أنتم العكارون ، وأنا فئتكم ] ([17])  . وقوله : أنا فئتكم : يمهد بذلك عذرهم ([18]) لقوله تعالى : [ أو متحيزاً إلى فئة ] .
ومن هذه الكفايات : كيف يجدد المعلم مخزون الحب عنده ، ويضمن عدم نفاده ، حتى يُنـزل طلابه منزلة أولاده ، قال الإمام النووي رحمه الله : [ويجريه – أي الطالب –مجرى ولده ، في الشفقة عليه ، والصبر على جفائه ، وسوء أدبه   ويعذره في سوء أدب ، وجفوة تعرض لك منه ، في بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ] ([19])
ومن أراد أن يربي فليوطن نفسه على التغاضي عن بعض الأمور ، ما دام التغاضي حكمة ، وهو نهج نبوي ، قال تعالى : [ عرف بعضه وأعرض عن بعض ] ، فليلتمس _ المعلم الكريم _ أسلوب النبي العظيم .
ومن هذه الكفايات : خلق الرحمة بطالبه وتلميذه :
     قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ أعـز الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس إلي ، أما والله إن الذباب ليقع عليه فيشفق علي ] ][20][ ، فإذا فهم المعلم الكريم هذا فلسوف يشق عليه بل سيؤرقه كل ما يقع على جليسه _ لا أقول من الذباب فقط _  ولكن من خطفات الشيطان ، ونزغات الهوى ، وتفريط الأسرة   وفسد الصحبة ، وسوى ذلك .

سابعـــاً : المعلــــم الـــــذي نريــــــد 
     كريم النفس ، واسع الصدر ، عظيم الصبر ، متمكناً في قرآنه ، راسخاً في إيمانه ، داعية في سلوكه ، أسوة في عمله وفي منطوقه ، ويحمل هموم حلقته ، ويفهم واقع أمته
     يسعد بتلميذه إذا حفظ آية ، ويفرح إذا بدت عليه أنوار الهداية ، يدعو لتلميذه بالثبات والصلاح ، والخير والفلاح ، ولا يتصيد أخطاءه .
     المعلم الذي نريد يحزن على تلميذه ، ولا يحزن منه ، يقدم اللين على الشدة ، والرفق على الحدَّة ، يعاتب تلميذه بحب ، ويسامحه بمقدرة ، ويعلمه بتجرد .
     يدرك قول القائل : خير الناس من مكنك من نفسه لتزرع فيها خيراً ، فيرى تلميذه خير الناس لأنه مكنه من نفسه 
     المعلم الذي نريد الذي يفتح عيادة القرآن وهو طبيبها ، ويرى تلاميذه أصنافاً شتى ، هذا يشكو قسوة قلبه ، وهذا يشكو ضعف شهيته في حفظه ، وآخر يشكو عسر فهمه ، وآخـر يشكـو صعوبة نطقه ، وآخـر يشكو شهوة نفسـه ، وآخر يشكـو فسـاد طبعـه ، وأخير يشكو جـمود عينـه ، وكلهـم يريـد حفظ كلام ربـه .
     فيـداويهـم بحكمتـه ، ويوجههـم ببصيرتـه ، ويـرقق قلوبـهم بقراءته ، ويرفع همتهم بهمته ، ويفجر طاقاتهم بعزيمته .
  
  أخي المعلم : لتكـن أنت القارئ والمقرئ ، والصالح والمصلح ، والراشد والمرشد  فأمتك اليوم أشد حاجة إليك   حيث عولت عليك ، وأجلست أبناءها بين يديك .
     فهنيئـاً لك _ أخـي معلـم القـرآن _ إن تك كـذلك ، وأعـانك الله إذ تحـاول أن تكـون ، وعفـا عنك فيمـا عجزت عـن بلـوغه يوم لا ينفع مال ولا بنون . 



([1]) رواه البخـاري رقم 5027 في فضـائـل القـرآن ، بـاب خيركم من تعلم القـرآن وعلمـه ، وأبـو داود رقم 1452 ، في الصلاة ، باب ثواب قراءة القرآن ، والترمذي رقم 2909 في ثواب القرآن
باب ما جاء في تعليم القرآن ، والدارمي رقم 3341 في فضائل القرآن ، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه
وابـن مـاجـة رقـم 211 في المقـدمة ، باب فضـل من تعلـم القرآن وعلمـه ، وأحمـد في المسند    
1/412 ، 413 ، 500 ، وصححه الألباني _ رحمه الله _ رقم 1173 .
([2]) آل عمران : 57 .
([3]) رواه الترمذي .
[4]([4]) انظر التبيـان في آداب حملـة القرآن ، للنووي ، مكتبة البيـان ، دمشق ، الطبعـة الأولى ، 1412هـ ، 1991م ، صـ 21 .
([5]) النساء : 58 .
([6]) رواه مسلم .
([7]) انظر رجال حول الرسول ، لخالد محمد خالد .
([8]) السلسلة الصحيحة رقم 1335 .
([9]) الأسرة المسلمة بين الفيديو والتلفزيون ، للأستاذ / مروان كجك ، صـ 88 ، نقلاً عن كتاب تربية المراهق في رحاب الإسلام ، لمحمد حامد الناصر ، وخولة درويش ، الطبعة الثانية ، دار المعالي بالأردن ، 1419هـ ، 1998م ، صـ 172 .
([10]) انظـر علو الهمة ، لمحمد أحمد إسماعيل ، مكتبة الكوثر ، الرياض ، الأولى ، 1416هـ ، 1996م ، صـ 27 .
([11]) تذكرة السامع والمتكلـم في آداب العـالم والمتعلم ، لابن جمـاعة ، طبعـة دار الكتب العلمية ، بـيروت ، صـ 61 ، 62 .
([12]) جزء من حديث رواه البخاري مع الفتح ، 4/ 330 ، ج 2038 .
([13]) العقد الفريد ، 1/ 363 .
([14]) الحج : 72 .
([15]) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، 4/ 222 .
([16]) انظر فتح الباري ، 1/ 564 .
([17]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي .   
([18]شرح السنة للبغوي .
([19]) المجموع ، شرح المهذب للنووي ، 1/30 ، وانظر تذكرة السامع والمتكلم ، لابن جماعة ، صـ 89 .   
([20]) عيون الأخبار ، لابن قتيبة ، 1/307 ، وأدب المجالسة ، صـ 33 ، وبهجة المجالس ، 1/45 .     

هناك تعليقان (2):

  1. جزاكم الله خير الجزاء وجعله في ميزان حسناتكم

    ردحذف
  2. مقالة رااااائعة بارك الله فيك ...

    ردحذف