السبت، 25 يونيو 2022

المبادئ العشرة والمقدمات المهمة لعلم التوحيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المبادئ العشرة والمقدمات المهمة لعلم التوحيد

 

إعداد/ عبداللطيف بن محمد البلوشي

 

المبادئ العشرة لكل علم وفن، تمثل مدخلا تعريفيا لطالب كل علم، وجمع بعضهم هذه المبادئ العشرة في قوله:
إن مبادئ أي علم كانا ... عشر تزيد من درى عرفانا
الحد والواضع ثم الاسم ... والنسبة الموضوع ثم الحكم
وغاية وفضله استمداد ... مسائل بها الهنا يزداد
وقال غيره:
مبادئ أي علم كان حد ... وموضوع وغاية مستمد
وفضل واضع واسم ... مسائل نسبة عشر تعد
وهذه المبادئ العشر اسم لمجموعة من المعاني، والمعارف يتوقف عليها شروع الطالب والباحث في طلب العلم وتحصيله

 


الأول: حد علم التوحيد.

§      معنى التوحيد لغة.

§      معنى التوحيد اصطلاحًا.

§      حد علم التوحيد باعتباره اللقبي.

الثاني: أسماء علم التوحيد:

§      الفقه الأكبر.

§      الإيمان.

§      السنة.

§      الشريعة.

§      أصول الدين.

§      العقيدة.

الثالث: موضوع علم التوحيد:

§      الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

§      الكتب والرسالات.

§      القضاء والقدر.

§      اليوم الآخر والسمعيات.

§      التواقض والقوادح.

الرابع: حكم علم التوحيد:

§      فرض العين.

§      فرض الكفاية.

الخامس: فضل علم التوحيد:

§      فضله من جهة موضوعه.

§      فضله من جهة معلومه.

§      فضله من جهة الحاجة إليه في الدنيا والآخرة.

السادس: استمداد علم التوحيد:

§      القرآن الكريم.

§      السنة.

§      الإجماع.

§      العقل الصريح.

§      الفطرة السوية.

السابع: نسبة علم التوحيد:

الثامن: واضع علم التوحيد:

§      طور الرواية قبل التدوين.

§      طور التدوين والاستقرار.

التاسع: غاية علم التوحيد وفائدته وثمرته:

§      بالنسبة للمكلف.

§      بالنسبة للعلم نفسه، وعلوم الإسلام.

العاشر: مسائل علم التوحيد.




المبحث الأول: حد علم التوحيد
أولًا: معنى التوحيد:
لغة: مادة "وحد" تدور حول انفراد الشيء بذاته أو صفاته أو أفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه.
والتوحيد مصدر وحده يوحده توحيدًا، "إما جعله واحدًا، أو اعتقده واحدًا" .
التوحيد اصطلاحًا: للتوحيد اصطلاحا إطلاق عام وذلك باعتباره فعلا من أفعال القلوب، وآخر خاص باعتباره علما على علم معين، وعلى هذا فالتوحيد بالمعنى المصدري العام هو: إفراد الله بالعبادة، مع الجزم بانفراده في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ذاته، فلا نظير له، ولا مثيل له في ذلك كله .

ثانيا: معنى العلم:
يطلق العلم ويراد به: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع،  
والعلم اصطلاحًا يطلق على مجموعة من المعارف الظنية الراجحة ومنها ما هو قطعي، بشرط أن تكون منظمة حول موضوع ما، كعلم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم الطب ونحو ذلك.
فإن العلم -اصطلاحا- قد يطلق ويراد به قواعد ومسائل العلم تارة، وإدراك هذه المسائل تارة أخرى، وملكة إدراك المسائل تارة ثالثة .

معنى المركب الإضافي علم التوحيد:

هو : الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل بانفراد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، مع انفراده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
علم التوحيد باعتباره اللقبي:
الطور الأخير لهذا الاصطلاح وهو طور الاستقلال وصيرورته لقبا على فن مخصوص، وهو "علم التوحيد"، ويعرف بهذا الاعتبار على أنه اختصارًا هو: "العلم بالأحكام الشرعية العقدية المكتسب من الأدلة اليقينية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية" .
وهذا التعريف يرجع إلى اعتبار هذا العلم ملكة يتمكن معها صاحبها من إيراد الحجج على العقائد، ودفع الشبهه عنها.
ويلاحظ أن علم التوحيد بمعناه اللقبي يقوم على دعامتين.
الأولى: التصديق بجملة من العقائد المتعلقة بالله تعالى، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، وبالقضاء وبالقدر.
الثانية: القدرة التامة على إثبات تلك العقائد المنسوبة إلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يإيراد الحجج الباهرة، ودفع الشبه الباهتة.


المبحث الثاني: أسماء علم التوحيد
أولًا: الأسماء الشرعية لعلم التوحيد:
1- علم التوحيد:
السبب في إطلاق اسم التوحيد على هذا العلم، هو أن مبحث وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته، وأفعاله هو أهم مباحث هذا العلم، فهو من باب تسمية الكل بأشراف أجزائه، أو تسمية العلم بأشهر بحوثه، ثم إن ما عدا مبحث الوحدانية قائم ومعتمد عليه، فهو الأصل الذي يتفرع عنه غيره.
الكتب المصنفة في باب الاعتقاد التي تحمل اسم التوحيد قديما وحديثا:
- "
كتاب التوحيد" لأبي العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي.

- "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "للإمام أبي بكر بن خزيمة.
2- العقيدة:
في اللغة: فعيلة بمعنى مفعولة، أي معقودة، فهي مأخوذة من العقد، وهو الجمع بين أطراف الشيء على سبيل الربط والإبرام والإحكام والتوثيق، ويستعمل ذلك في الأجسام المادية، كعقد الحبل، ثم توسع في معنى العقد فاستعمل في الأمور المعنوية، كعقد البيع وعقد النكاح .
وكلمة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت مادتها فقط في مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}

"وأما معاجم اللغة القديمة فلم ترد فيها كلمة العقيدة باستثناء المصباح المنير، فقد ذكر فيه الفيومي أن العقيدة ما يدين الإنسان به، فهي الإيمان بحقيقة معينة إيمانا لا يقبل الشك أو الجدل" .
في الاصطلاح: هي الإيمان الذي لا يحتمل النقيض" ، ويلاحظ اقتراب أو تطابق المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة العقيدة .
العلاقة بين علمي العقيدة والتوحيد:
"وعلم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منه، وهي انعقاد القلب انعقادا جازما لا يقبل الانفكاك" .
وقد يفرق بينهما باعتبار أن علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات، وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم؛ تقرر الحق بدليله، وترد الشبهات
وقد جرى تسمية كتب  في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، والإمام اللالكائي رحمه الله في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة".
3- الإيمان:
وأما الإيمان: فمعناه التصديق. وأما الإيمان في خطاب الوحي فيطلق على الاعتقاد القلبي، والإقرار اللفظي، والعمل الحسي، امتثالًا للأوامر، واجتنابا للمناهي .
وهذا مأخوذ من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان في حديث جبريل عليه السلام ، وحديث وفد بني عبد القيس ، وفيه: "هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"، حيث عرف الإيمان في الحديث الأول بالاعتقادات الباطنة، وفي الحديث الثاني بالأعمال الظاهرة، ثم صار الإيمان يطلق ويراد به مسائل الاعتقاد كلها.
ومن الكتب: - "
كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته"، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي رحمه الله.
- "
كتاب الإيمان" للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي وللحافظ محمد ابن منده رحمهما الله.

4- السنة:
في اللغة: تطلق على الطريقة المسلوكة، محمودة كانت أو مذمومة، كما تطلق على العادة الثابتة المستقرة، وعلى غير ذلك.
اصطلاحا لها معان كثيرة بحسب العلم الذي نذكر فيه، قال ابن رجب رحمه الله: "وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم" .
وهذا الإطلاق للسنة على العقيدة من باب إطلاق الاسم على بعض مسمياته، فإن الاعتصام بالسنة من أهم أصول أهل السنة،
-هذا بالإضافة إلى أن السنة لغة هي الطريقة، فأطلقت على عقيدة السلف لاتباعهم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الاعتقاد خاصة، واستفاض ذلك المصطلح في الناس حتى إذا قيل: فلان صاحب سنة، كان معناه أنه على معتقد سلفي.
- وقد عرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وساد ذلك في القرن الثالث الهجري، في عصر الإمام أحمد رحمه الله، حيث أظهر أهل البدع بدعهم وجاهروا بها تصنيفا ومناظرة، فألف أهل السنة في الرد عليهم كتبا أسموها كتب السنة، .
ومن الكتب: - "السنة" للإمام أحمد رحمه الله. - "السنة" لأبي بكر بن الأثرم رحمه الله. - "السنة" لابن أبي عاصم رحمه الله.

5- أصول الدين:
وأصول الدين هي المبادئ العامة، والقواعد الكلية الكبرى، التي بها تتحقق طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
فأصول الدين بهذا الاعتبار تشمل أركان الإسلام من الأعمال الظاهرة، وأركان الإيمان من الاعتقادات الباطنة، ثم غلب على في قضايا التوحيد والعقيدة، ذلك بأن بحوث علم الاعتقاد أصل لما يتلوها من علوم الدين الأخرى كالفقه والحديث,
 من الكتب: - "الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة" لأبي عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي رحمه الله.
- "الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري رحمه الله.

6- الشريعة:
قال ابن منظور: "وهي لغة: من الشرع وهو السن والبيان والمورد والطريق" ، وقال ابن فارس: "والشريعة: مورد الشاربة من الماء"
معناها في الاصطلاح: قد تطلق الشريعة على ما شرعه الله تعالى لجميع رسله من أصول الاعتقاد والبر والطاعة مما لا يختلف من دعوة لأخرى، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }
ثم أطلقت الشريعة وبإطلاق أخص على: "العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ... إلخ" .
- "
الشريعة" لأبي بكر الآجري رحمه الله. - "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" لابن بطة الحنبلي رحمه الله.
7- الفقه الأكبر:
أطلق الفقه في الاصطلاح الأقدم على ما هو أعم من علم الفروع، بحيث يشمل الأصول والفروع، وعن هذا المعنى عبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: "الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها"، وذلك من كل ما تنتفع به وتتضرر في الآخرة، من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ونحو ذلك، ثم لما أراد أبو حنيفة رحمه الله تمييز الاعتقادات عن غيرها، فسماه الفقه الأكبر، تمييزا له عن الأصغر وهو فقه الفروع. "سمي بالفقه الأكبر؛ لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى الفقه الأصغر؛ ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته الذي يبحث فيه هذا العلم، لذلك سمي الفقه الأكبر" .

التطور التاريخي لتدوين علم التوحيد:
لا ريب أن مصطلحي الإيمان والفقه الأكبر قد ظهرا في القرن الثاني وبرزا، واستمر مصطلح الإيمان في الذيوع خلال القرن الثالث حيث برز مصطلح السنة، وظهرت الكتب الاعتقادية التي حملت اسم السنة، وتوالي التصنيف في القرن الرابع بهذه الأسماء الاصطلاحية، ثم ظهر في القرن الرابع أربعة مصطلحات شاعت وذاعت، وهي: التوحيد، الشريعة، أصول الدين، العقيدة، وإن كان مصطلح العقيدة قد ظهر أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري، كما يبدو هذا من كتاب الإمام اللالكائي رحمه الله "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، وكذا فعل الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وتتابع بعد ذلك المصنفون على استعمال هذا المصطلح.

ثانيا: أسماء علم التوحيد عند الفرق الإسلامية
1- علم الكلام: وهذا هو أشهر الإطلاقات عند سائر الفرق الإسلامية من أشاعرة، ومعتزلة وغيرهم في القديم والحديث.
أسباب تسمية علم التوحيد بعلم الكلام:
1- " لأن أصحابه كانوا يترجمون لمسائله بقولهم: "الكلام في القدرة، الكلام في العلم، فشاع الكلام على هذا العلم وغلب عليه، فالتسمية من باب الشيوع والذيوع والغلبة".
2- لأنه يكسب المتكلم قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصوم .
ويرى أهل السنة هذه التسمية لهذا العلم المبارك تسمية مبتدعة وأنه ليس تحته، أو من ورائه عمل نافع،  

 2- الفلسفة: فالفلسفة إعمال العقل في أي مجال وكل مجال بلا أي منطلقات سابقة من دين أو وحي، للوصول إلى الحقائق
و تسمية علم التوحيد بالفلسفة هو تسمية للإيمان بضده، وللنور والهدى واليقين بالظلمة والضلال والشك، والعلماء متفقون على حرمة تعلم الفلسفة، متفقون على ذمها وذم من دخل فيها من علماء الكلام سواء في ذلك أهل السنة، أو الأشاعرة. 


المبحث الثالث: موضوع علم التوحيد
قال ابن النجار الحنبلي رحمه الله: "هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية" ، أي الأحوال التي منشؤها ذات الشيء محل البحث، فالمقصود الأحوال التي منشؤها ذات العلم.
فإذا قيل: إن موضوع علم الطب هو بدن الإنسان، فإن موضوعه يبحث عما يعرض لهذا البدن من أحوال الصحة والمرض، وإذا قيل: إن موضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين، فإنه يبحث عما يعرض لهذه الأفعال من الأحكام، كالوجوب، والحرمة، وغيرها.
وموضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، "مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك"، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار، وما يتعلق باليوم الآخر" والقضاء والقدر، كما يدور على بيان ضد التوحيد وهو الشرك والكفر، وبيان حقيقتيهما وأنواعهما.
وقد يقال: إن موضوع علم التوحيد يدور على محاور ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
1- ذات الله تعالى أو "الإلهيات": والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، هي:
1- ما يتصف به تعالى من العلم والحياة والقدرة والصفات، وسائر صفاته. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}   
2- ما يتنزه عنه من الظلم والنقص والعجز ، وسائر ما لا يليق بجلاله. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}
3- حقه على عباده، وهو أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا، وأن يطيعوه فلا يعصوه أبدًا، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

2- ذوات الرسل الكرام أو "النبوات": والبحث في ذوات الرسل الكرام من الحيثيات التالية:
-
ما يلزمهم ويجب عليهم من صدق وأمانة وبلاغ ونصح لأممهم، ونحو ذلك. قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}    
-
ما يجوز في حقهم من أكل ونكاح وأمراض غير منفرة وموت، ونحو ذلك مما يعرض للبشر. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ..}   

- ما يستحيل في حقهم من الكذب والخيانة والكفر والكبائر. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}  
-
ما يجب لهم على أتباعهم من الحب والطاعة والاتباع والتعظيم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}

3- السمعيات أو "الغيبيات":
وهي ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل، كأشراط القيامة، وتفاصيل البعث والجزاء دون أصلهما، والصراط والحوض، وأخبار الجنة والنار، ونحو ذلك.
والبحث في السمعيات أو مسائل الغيب يكون من حيث اعتقادها، وهو يقوم على دعامتين اثنتين هما:
1- الإقرار بها مع التصديق، ويقابله الجحود والإنكار لها.
2- الإمرار لها مع إثبات معناها، ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدا عن النقل.
وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها أو يحيلها، ولا يقدر على ذلك، ولا يقدر أن يوجبها، ولا يحار في ذلك.
فمتى ما صح النقل عن الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي، وبين خلقه وهو العقل، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ،  

- وأخيرا فإن موضوع علم التوحيد هو ذات الله وحده، وذلك من حيث ما يجب له ويجوز ويمتنع ، ومن حيث رسالته الواردة عن طريق الرسول، ومن حيث ما ورد في هذه الرسالة من خبر ووحي، فالكل متعلق بالله الواحد الأحد، وعلى هذا فكل ما له تعلق بالله أو الرسول أو الوحي من الحيثيات السابقة فهو من علم التوحيد، وما خرج عن ذلك فهو خارج عن علم التوحيد ولا بد.
 

المبحث الرابع: حكم علم التوحيد
علم التوحيد منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، وهذا شأن العلوم الشرعية عامة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماء أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية، إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع" .
وإن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}  
فكان أول الواجبات وأوجب التكليفات، هو إفراد الله تعالى بالتوحيد والبراءة من الشرك باتفاق أهل السنة، وفي الحديث: "إن العبد أول ما يسئل في قبره من ربك، وما دينك، ومن الرجل الذي بعث فيكم"  .
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في منظومته:
أول واجب على العبيد ... معرفة الرحمن بالتوحيد
إذ هو من كل الأوامر أعظم ... وهو نوعان أيا من يفهم
ومما يدل على أنه آخر واجب، حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"  .
وفرض العين منه، هو: ما تصح به عقيدة المسلم في ربه، من حيث ما يجوز ويجب ويمتنع في حق الله تعالى، ذاتا وأسماء وأفعالا وصفات، على وجه الإجمال، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالإيمان المجمل أو الإجمالي.
وهو ما يسأل عنه جميع الخلق، لما روي عن أنس وابن عمر في قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قالوا: عن لا إله إلا الله .
وأما فرض الكفاية منه: فما زاد على ذلك من التفصيل والتدليل والتعليل، وتحصيل القدرة على رد الشبهات وقوادح الأدلة، وإلزام المعاندين وإفحام المخالفين، وهذا ما يسمى بالإيمان التفصيلي، وهو من أجل فروض الكفايات في علوم الإسلام؛ لأنه ينفي تأويل المبطلين وانتحال الغالين، فلا يجوز أن يخلو الزمان ممن يقوم بهذا الفرض الكفائي المهم،
واختصارًا فإن حكم الشارع في تعلم علم التوحيد أنه فرض عين على كل مكلف، من ذكر وأنثى، وذلك بالأدلة الإجمالية، وأما بالأدلة التفصيلية ففرض على الكفاية.
ويشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط: العقل، والبلوغ، وسلامة حاستي السمع أو البصر، وبلوغ الدعوة، وفيما يلي لمحة عنها:
1- العقل: ويقصد به الوصف الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان، فبه يتحصل على العلوم النظرية، ويدبر الصناعات الخفية، وينشأ هذا العقل في بطن الأم ويكتمل لدى البلوغ، وهو بهذا الاعتبار محض منحة الله وفضله.
2- البلوغ: ويقصد به انتهاء حد الصغر، وانتقال الصبي من حالة الطفولة إلى حالة الرجولة، وعنده يتم التكليف ويجري القلم، ويدرك الصغير قضاياه المصيرية، ويفكر بجدية في إجابات الأسئلة الضرورية، فإذا مات الصبي قبل البلوغ، فقد مات مرفوعا عنه القلم وناجيا عند الله تعالى، سواء في ذلك أبناء المسلمين والكفار على الراجح.
 3- سلامة حاسة السمع أو البصر: الحاسة بمعنى القوة الحاسة المدركة، ومنها الحواس الخمس، وهي تنقل إلى الأذهان ما تستطيع الإحساس به، فلا يدرك بواحدة ما يدرك بالحاسة الأخرى، والمدرك بشيء منها يقال له محسوس، وقد تكون تلك الحواس سليمة فتنقل نقلا صحيحا، وقد تكون عليلة أو مختلة فتنقل نقلا خاطئا أو مشوها.
 4- بلوغ الدعوة وقيام الحجة: فلا حساب ولا عذاب إلا بعد قيام الحجة الرسالية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب وقطع العذر على أكمل وجه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}  

والناس بحسب بلوغ الدعوة، وقيام الحجة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
أهل القبلة: وهم الذين بلغتهم دعوة الرسول فآمنوا وشهدوا بالتوحيد، وماتوا على ذلك.
قال النووي رحمه الله: "اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازما خاليا من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا، إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية، أو لغير ذلك، فإنه يكون مؤمنا" .
أهل الفترة: وهم كل من لم تبلغهم دعوة الرسل، ولم تقم عليهم الحجة، أو عاشوا بين موت رسول وبعثة رسول آخر، ولم تبلغهم دعوة الأول .
فمن لم تبلغهم دعوة الرسول مطلقا، وماتوا على الشرك فهم معذورون في الدنيا بمعنى أن الله تعالى لا يعاجلهم بعذاب الاستئصال، ولا يتسلط عليهم المؤمنون بالقتال، حتى تبلغهم الدعوة، فإن ماتوا على ما عاشوا عليه من عدم الإيمان فهم ممتحنون في الآخرة -على الراجح- بنار يؤمرون باقتحامها، فمن أطاع في الآخرة، فإنه من أهل الطاعة في الدنيا لو جاءته الرسالة، ومن عصى في الآخرة، فإنه من أهل الكفر في الدنيا لو جاءته الرسالة، وهذا الامتحان يكشف علم الله تعالى في كل بسبق السعادة أو الشقاوة، وهذا مذهب السلف وعامة أهل السنة،
ولا يرد على هذا المذهب أن الآخرة دار جزاء لا عمل؛ لأن التكليف إنما ينقطع بدخول دار القرار، وأما في البرزخ، وعرصات القيامة فلا ينقطع.
الكفار: وهم كل من سمع بدين الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن ظاهرا وباطنا، فكل من سمع بهذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يؤمن فهو كافر من أهل النار.
 قال ابن حزم رحمه الله: "فإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره عليه السلام، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره عليه السلام، ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به ... وأما من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به ثم لم يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرئ فيها الحقائق" .
ولو وجد من هؤلاء الكفار جهلة مقلدون لم يصلهم نور الإسلام، ولم يسمعوا به، فهؤلاء قد يعذرون في الآخرة، ولا يعذرون في الدنيا.


المبحث الخامس: فضل علم التوحيد
يقصد بفضل علم التوحيد مزيته وقدره الزائد على غيره من العلوم، وإذا كانت العلوم الشرعية كلها فاضلة لتعلقها بالوحي المطهر، فإن التوحيد في الذروة من هذ الفضل العميم، وذلك يظهر بالنظر إلى جهات ثلاث: موضوعه، ومعلومه، والحاجة إليه.
فضله من جهة موضوعه:
- من المتقرر أن المتعلق يشرف بشرف المتعلق، فالتوحيد يتعلق بأشرف ذات، وأكمل موصوف، بالله الحي القيوم، لذا كان علم التوحيد أشرف العلوم موضوعا ومعلوما، وكيف لا يكون كذلك وموضوعه رب العالمين، وصفوة خلق الله أجمعين، ومآل العباد إما إلى جحيم أو إلى نعيم، ولأجل هذا سماه بعض السلف الفقه الأكبر.
-
وتحقيق التوحيد هو أشرف الأعمال مطلقا، ففي الصحيح: "أفضل الأعمال عند الله: إيمان لا شك فيه"  .
- وهو موضوع دعوة رسل الله أجمعين، قال ابن القيم رحمه الله: "وجميع الرسل إنما دعوا إلى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}   ، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، فقالوا لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}  

وله خلق الجن والإنس {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي يوحدون فأهم ما على العبد معرفته هو التوحيد، وذلك قبل معرفة العبادات كلها حتى الصلاة".

فضله من جهة معلومه:
إن معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي، الدال عليه وحيه وكلامه، الجامع للعقائد الحقة، كالأحكام الاعتقادية المتعلقة بالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والبعث بعد الموت.
-
ومراد الله تعالى يجمع أمورًا ثلاثة، وتترتب عليه أمور ثلاثة، فهو يجمع أن الله تعلا أراده وأحبه فأمر به، ويترتب على كونه أمر به أن يثيب فاعله، ويعاقب تاركه، وأن ينهى عن مخالفته؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالأمر بالتوحيد نهي عن الشرك ولا بد.
- وقطب رحى القرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته في تقرير معلوم التوحيد، يقول صديق حسن خان رحمه الله: "اعلم أن فاتحة الكتاب العزيز التي يكررها كل مسلم في كل صلاة مرات، ويفتتح به التالي لكتاب الله والمتعلم له، فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في ثلاثين موضعا" .
فالقرآن من فاتحته إلى خاتمته في تقرير التوحيد بأنواعه، أو في بيان حقوق التوحيد ومقتضياته ومكملاته، أو في البشارة بعاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، أو في النذارة بعقوبة المشركين والمعاندين في الدارين، ثم إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في بيان القرآن بيانا عمليا تحققت فيها معاني التوحيد، وحسمت فيه مواد الشرك على الوجه الأتم الأكمل.
 فضله من جهة الحاجة إليه:
وأما فضل علم التوحيد باعتبار الحاجة إليه، فيظهر ذلك بالنظر إلى جملة أمور، منها:
-
أن الله تعالى طلبه، وأمر به كل مكلف، وأثنى على أهله، ومدح من توسل به إليه، ووعدهم أجرا عظيما.
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}  
-
ومنها أن عقيدة التوحيد هي الحق الذي أرسلت من أجله جميع الرسل. قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}   .

وهي حق الله على عباده كما في حديث معاذ رضي الله عنه: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"  .
وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام التي أمرنا الله باتباعها، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهي أيضا دعوته عليه السلام، قال تعالى على لسانه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام}  
-
ومنها أن الله تعالى جعل الإيمان شرطا لقبول العمل الصالح، وانتفاع العبد به في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}   .
فإذا جاء العبد بغير الإيمان فقد خسر جميع عمله الصالح، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}  
-
ومنها أن سعادة البشرية في الدنيا متوقفة على علم التوحيد، فحاجة العبد إليه فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة، فلا راحة ولا طمأنينة ولا سعادة إلا بأن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، وأفعاله من جهة صحيحة، صادقة، وهي جهة الوحي.

 ولهذا سمي الله تعالى غير الموحد ميتًا حقيقة، قال تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
فمقابلة الموتى بالسامعين تدل على أن الموتى هم المشركون والكافرون، وهذا تفسير جمهور السلف ، وقيل المراد بالموتى: موتى الأبدان، فنفي السماع يعني نفي الاهتداء، فكما قيل: إن الميت يسمع ولا يمتثل، فهؤلاء الأحياء من الكفار حين يسمعون القرآن كالموتى حقيقة حين يسمعون، فلا يمتثلون ولا ينتفعون.
ومما يشهد لهذين المعنيين أن الله تعالى سمي ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورا لتوقف الهداية عليه، وسماه شفاء؛ لأنه دواء للنفوس من عللها.
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}  
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}

قال بعض السلف: "ما طابت الدنيا إلا بتوحيده، وما طابت الآخرة إلا بجنته، والنظر إليه تعالى" .
فالمؤمن في الدنيا ينعم باطمئنان نفسه، واستراحة عقله، وطهارة قلبه، وصلاح عمله، فإذا مات وصار إلى قبره كان في حياة طيبة في روضة من رياض الجنة، فإذا قامت القيامة وصار إلى الجنة دار الطيبين فقد كملت النعمة وتمت المنة.


المبحث السادس: استمداد علم التوحيد
كل علم من العلوم يتوقف في وضع قواعده، والحكم في مسائله، وفهم حقيقة تلك المسائل على ما يستمده من غيره من العلوم، فهي بمثابة طرق ووسائل ومصادر، وروافد تفيد في تقعيد قواعد ذلك العلم، وتعين على طلبه ودرسه، وتلزم له، ويتوقف عليها.
وإن علم التوحيد يستمد من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وذلك بمعرفة مناهج الاستنباط، وطرائق الاستدلال، واستخراج الأحكام عند أهل السنة، وهذا يلزم له إلمام بالعربية التي هي لسان الوحي، قرآنا وسنة، وبها نطق أهل العلم في الأمة من السلف الصالح، كما يلزم له إدامة نظر في كتب الشروح والتفسير المأثور للقرآن والحديث، مع بلوغ غاية من علم الأصول، إذ هو سبيل الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية، العقدية والعملية، التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية.

أنواع أدلة علم التوحيد:

إن علم التوحيد أوثق العلوم الشرعية دليلا، وأصرحها برهانا، وأظهرها بيانا، تقوم دعائم دلائله على صحائح المنقول، والإجماع الصحيح المتلقى بالقبول، ثم صرائح وبراهين المعقول، والطفرة المستقيمة السالمة من الانحراف،
أولا: صحائح المنقول:
تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وأهم ذلك العقيدة في الله وفي أنبيائه ورسالاته، والغيب وما يحويه.
وعن السنة قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"  .
وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على الأمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف، ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد.
ولا يعارض صحيح النقل -من أدلة علم العقيدة- بوهم الرأي وخطل القياس. ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده ...

وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقا -بشرط الصحة-، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.
ثانيًا: الإجماع المتلقى بالقبول:
والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل.
 
ثم يأتي في المرتبة الثانية بعد هذه الأصول المعصومة، مصدران آخران وهما: العقل السالم الصحيح، والفطرة المستقيمة السوية.
ثالثا: صرائح المعقول:
"العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرًا مستقلا، بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد عل محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع" ، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال،  
 والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل" .
 
أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، وما يجب لهم وما يستحيل، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي.
وأخيرًا فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}  
قال شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: "وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛ لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلًا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة" .
رابعا: الفطرة السوية:
أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، أو هي الإسلام والدين القيم.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}  
قال ابن كثير رحمه الله: "فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"3.


المبحث السابع: نسبة علم التوحيد
نسبة العلم هي علاقته بغيره من العلوم وصلته بها، ونسبة أي علم إلى غيره من العلوم تتردى بين أربع نسب، هي:
1- الترادف: فتطلق الأسماء المختلفة على مسمى واحد وعلم محدد، فتختلف الأسماء وتتفق المسميات.
2- التخالف: فتتباين الأسماء والمسميات، بحيث لو نسب أحد العلمين إلى الآخر، لم يصدق على شيء مما صدق عليه الآخر.
3- التداخل: كأن يكون أحد العلمين أعم من الآخر فأحدهما داخل بتمامه في الآخر، وهو العموم والخصوص المطلق.
4- التقاطع: وهو العموم والخصوص الوجهي أو النسبي، بأن يكون كل من العلمين أعم من جهة، وأخص من جهة أخرى.
وعلى ما سبق يمكن القول بأن علم التوحيد نسبته إلى سائر العلوم الشرعية هي التخالف والتباين، فهو فن مستقل بذاته، قائم بنفسه، له أصوله ومصادره، ومناهجه ومسائله، ولا يغني عنه غيره، وإن كان كالأساس لعلوم الإسلام، وهو منها بمنزلة الرأس من الجسد، ولذا مال بعض العلماء إلى التعبير عن نسبته إلى غيره من العلوم بأنه أصلها وما سواه فرع عنه، باعتبار أن علوم الإسلام تقوم أولا على معرفة الله تعالى وتوحيده، والتصديق ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وأمور الغيب، وهذا موضوع علم التوحيد.
ولذا قال الإمام السفاريني في منظومته:
وبعد فاعلم أن كل العلم ... كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي

ولأجل هذا المعنى سماه الإمام أبو حنيفة بالفقه الأكبر، سبب هذه التسمية أن النصوص من كتاب وسنة تدور حول التوحيد في خمسة محاور لا سادس لها، فإما أن تكون في تقرير التوحيد في نوعه العلمي الخبري، أو في تقريره في نوعه الطلبي الإرادي، ودعوة الخلق لعبادته تعالى وحده، أو في مستلزمات التوحيد ومقتضياته، وحقوقه من الأحكام الفقهية العملية، أو في الجزاء على التوحيد من إكرام الله لعباده الموحدين، أو في بيان العقوبات والوعيد على مضادة التوحيد بالشرك والإلحاد، فصار التوحيد أصلا لغيره من العلوم حيث ارتبطت به واعتمدت عليه .


المبحث الثامن: واضع علم التوحيد
لا شك أن التوحيد جاءت به الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وأما علم التوحيد، فقد مر في وضعه وتدوينه بطورين:
أولهما: طور الرواية "ما قبل التدوين"، والثاني: طور التدوين والاستقرار.  
أولا: طور الرواية:
لم يكن الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى التدوين في العلوم الشرعية، فقد كانوا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيين،" ويوردون عليه ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات، فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم، وقد أورد عليه من الأسئلة أعداؤه وأصحابه، أعداؤه للتعنت والمغالبة، وأصحابه للفهم والبيان وزيادة الإيمان" ، وكل ذلك رواه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، فكانت مسائل الاعتقاد محفوظة في أذهانهم، مستدلا عليها بكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يقع بينهم اختلاف في شأن العقيدة، بل اجتمعوا على عقيدة صحيحة، سالمة نقية خالية من كل شوب، فكانوا" أقرب إلى أن يوفقوا إلى الصواب من غيرهم بما خصهم الله به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وتقوى الرب، فالعربية طريقتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم.... علموا التنزيل وأسبابه، والتأويل وآدابه، وعاينوا الأنوار القرآنية، والأشعة المصطفوية، فهم أسعد الأمة بإصابة الصواب، وأجدرها بعلم فقه السنة والكتاب" .
لأجل هذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى تدوين علم التوحيد، أو تصنيف كتب فيه.
ثانيا: طور التدوين:
وبدأ هذا في حياة التابعين، وإن وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم صور من الكتابة والتدوين، حيث ابتدأ ذلك الإمام الزهري رحمه الله تعالى، ثم شاع ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، كما فعل الإمام مالك في الموطأ، حيث رتبت الأحاديث على أبواب تتعلق بالتوحيد مثل: باب الإيمان، وباب التوحيد، وباب العلم، إلخ ...
ولعل هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب فيما بعد بالتصنيف والبحث.
- ومما أوقد جذوة التدوين ما وقع في آخر زمن الصحابة من بدع، واختلاف في العقدية، كما في مسألة القدر، وكان أول من تكلم به معبد الجهني "ت: 80هـ"، ومسألة التشيع والغلو في آل البيت، وفتنة عبد الله بن سبأ، كما وقعت من قبل بدعة الخوارج وصرحوا بالتكفير بالذنوب، وبعد ذلك نشأ مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء "ت: 131هـ"، وصنف في مسائل من العقيدة ما خالف به الصحابة والتابعين، وخرج على إجماع خير القرن في الاعتقاد، فتصدى له التابعون بالرد عليه والمناظرة في هذه المسائل، ثم بدأ التصنيف في عقيدة أهل السنة حين أصبح ضرورة لا بد منها لنفي تأويل المبطلين، ورد انحراف الغالين،  

- كان أول مدون عرفناه في العقيدة -على هذا النحو- هو كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله "ت: 150هـ"، وهو ثابت النسبة إليه، رواه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، كما رواه حماد بن أبي حنيفة. حدد فيه أبو حنيفة عقائد أهل السنة تحديدا منهجيا ورد فيه على المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، واشتمل على خمسة أبواب -في أتم رواياته-: الأول في القدر، والثاني والثالث في المشيئة، والرابع في الرد على من يكفر بالذنب، والخامس في الإيمان، وفيه حديث عن الأسماء والصفات،

والفطرة، وعصمة الأنبياء، ومكانة الصحابة، وغير ذلك من مباحث العقيدة.
فلو قال قائل: إن واضع علم التوحيد -بمعنى أول من وضع مؤلفا خاصا في الفن من أهل السنة- هو الإمام أبو حنيفة، لكان صادقا ولم يبعد عن الصواب، "وإن كان قد قيل: إن واضعه الإمام مالك بن أنس، وأنه ألف فيه رسالة، وقيل أيضا أنه لما كثرت الفتن أمر المنصور بوضع كتب لإزالتها والرد عليها" .
كما ثبت أن الإمام ابن وهب رحمه الله "ت: 197هـ"، وضع كتابا في القدر على طريقة المحدثين في جمع الأحاديث، وإن كان دون تبويب.
ثم تتابع التأليف بعد أبي حنيفة في علم التوحيد، ولكن بأسماء مختلفة لهذا العلم، فمن أول ذلك كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام "ت: 224هـ"، وتبعه على هذا كثيرون إلى يوم الناس هذا،

كما ظهر مصطلح السنة للدلالة على ما يسمل من الاعتقادات، واشتهر ذلك زمن الإمام رحمه الله، ومن الكتب المصنفة باسم السنة، كتاب السنة لابن أبي شيبة رحمه الله "ت: 235هـ"، والسنة للإمام أحمد رحمه الله "ت: 240هـ"، وغير ذلك،

 ثم ظهر مصطلح التوحيد في مثل كتاب التوحيد لابن سريج البغدادي رحمه الله "ت: 306هـ"، وكتاب التوحيد لابن خزيمة رحمه الله "ت: 311هـ"، وواكب ذلك ظهور مصطلح أصول الدين، ثم ظهر التأليف باسم العقيدة أوائل القرن الخامس الهجري، واستقرت حركة التصنيف ومنهج التأليف، واستقل علم التوحيد علما متميزا عن غيره بلقب ومنهج مخصوص.
وأخيرًا فإن فيما سبق بيانه رد على من زعم -من الأشاعرة والماتريدية- أن واضعي علم التوحيد هما: أبو الحسن الأشعري "ت: 324هـ"، وأبو منصور الماتريدي "ت: 333هـ"، حيث سبقا بتآليف كثيرة كتبت على منهج أهل الحديث، أهل السنة والجماعة.

 


المبحث التاسع: غاية علم التوحيد
"الغرض والغاية والفائدة والثمرة من العلم بمعنى واحد، فكل ذلك اسم للمصلحة المترتبة على تعلم العلم، وإنما اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات، فكل منفعة ترتبت على فعل ما تسمى فائدة وثمرة، من حيث ترتبها عليه، وتسمى غاية من حيث إنها على طرف الفعل ونهايته، وغرضا من حيث إن الفاعل فعل ذلك الفعل لأجل حصوله" .
وتظهر ثمرة دراسة علم التوحيد -على منهج أهل السنة والجماعة- من جهات وحيثيات كثيرة، إلا أنها تعود إلى أمرين أساسيين: الأول: باعتبار المكلف، والثاني باعتبار العلم نفسه وعلوم الإسلام الأخرى،

وما يتعلق بالمكلف يعود إلى منفعة دنيوية وأخروية، والدنيوية ترجع إلى منفعة علمية وعملية:
أولًا: ثمرته بالنسبة للمكلف:
1- في حياته الدنيا:
إن قيام المدنية، وازدهار الحضارة، وانتظام أمر الحياة، وطيب العيش، لمن ثمرات التوحيد المباركة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}  
"
إن الإيمان يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة، فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح"
- ومظاهر الحياة الطيبة التي خص الله بها عباده المؤمنين في الدنيا كثيرة نذكر منها:
- ولاية الله عز وجل: قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ...}   .
-
محبة الله عز وجل للمؤمنين ومحبة الخلق لهم: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}  
-
مدافعة الله عن المؤمنين وإنجائه لهم ونصرهم على أعدائهم:  قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}

-حصول نور البصيرة التي تفرق بين الحق والباطل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}  وهذا الفرقان فسره أهل العلم بالنور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، فيفرق به بين الحق والباطل، والسنة والبدعة .
-
حصول العزة وتمام الكرامة والشرف: قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}  
2- في قوته العلمية:
وهي القوة التي يدرك الإنسان بها، ويفرق بين الحق والباطل، وتظهر ثمرة علم التوحيد العلمية من خلال الأمور التالية:
-
معرفة الله تعالى معرفة يقينية: قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
-
انشراح الصدر وطمأنينة القلب: وهذا الأمر ثمرة حصول المعرفة الصحيحة بالله تعالى، والإجابة على أسئلة الفطرة حول الكون والحياة، فنفس لا إيمان فيها مضطربة، قلقة، تائهة خائفة، فأما اضطرابها؛ فلأنها كالسفينة تتقاذفها الأمواج العاتية، تتلقى عن كثيرين -غير الله تعالى- مناهجها عقائدها فتضطرب مرجعيتها، ويختلف سبيلها، وتتناقض مسيرتها، وأما النفس المؤمنة الموحدة، فقد اتحد مصر ورودها، وصدورها في كل أمر، فهي تتلقى من الله وعن الله، وهي تسير إلى الله.
 - حصول برد اليقين واستقرار الفكر. أين هذه الحيرة والاضطراب في الظلمات، ممن التزم المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فهو على نور من ربه،

- النجاة من الانحراف عن الصراط المستقيم: وذلك؛ لأن الاعتقاد الصحيح هو سبيل الله، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} ، والانحراف عن سبي الله هو اتباع السبل والطرق المخالفة لما أمر الله به في الأصول والفروع.
3- في قوته العملية:
وهي القوة التي تحمل الإنسان على السير إلى الله تعالى، والاجتهاد في عبادته، والتقرب إليه بما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، وتظهر ثمرة علم التوحيد العملية من خلال الأمور التالية:
-
تحقيق الإخلاص وأعمال القلوب على الوجه الصحيح:
إن الإخلاص هو حقيقة الدين، ومفتاح دعوة رسل الله أجمعين، وهو روح التوحيد ولب الرسالة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، والإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد، وهو تصفية العمل من كل شوب،  
والإخلاص يتوقف في حصوله وكماله على معرفة العبد لربه، وتعظيمه وتأليهه، ومعرفة أسمائه تعالى وصفاته، وإحصائها والتعبد لله بمقتضاها، فمن كان بالله أعرف كان له أخلص، وفيما عند الله تعالى أرغب، ومن عقوبته أرهب.
 - اشتغال الجوارح بالطاعات:
قال سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}  
والسعي للآخرة هو العمل بكل ما يقرب إليها ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا تأسست على الإيمان وانبنت عليه، كان السعي مشكورا مقبولا مضاعفا، لا يضيع منه مثقال ذرة، وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبول، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}
-
الاجتماع والوحدة والائتلاف:
وهذا هو ما دعى الله إليه عباده بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}  وقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك الطاعة وفارق الجماعة، ثم مات فقد مات ميتة جاهلية"
4- في حياته الآخرة:
إن امتناع الخلود في النار لمن ظلم نفسه من الموحدين، ودخول الجنة ابتداء لمن اقتصد من أصحاب اليمين، والفوز بالدرجات العلى لمن سبق بالخيرات، مع رضوان الله تعالى ورؤية وجهه الكريم في الجنات، هو غاية المطالب، ونهاية الرغائب لجميع المؤمنين.
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}   .
 وعندما خطب عمر رضي الله عنه، وتلا الآية السابقة قال: "سابقنا مقرب، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له" ،

والجنة لا يدخلها إلا مؤمن موحد، وإن ظلم نفسه بغير الشرك، ولا يخلد في النار إلا كافر أو منافق، ففي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن"  ، فالمؤمن إما أن يعامله ربه بفضله، فيغفر له بلا سابقة عذاب، ويمحق توحيده سيئاته، وإما أن يعامله بعدله، فيأخذه بذنبه، فيطهره منه ثم يؤول أمره إلى الجنة، وإذا دار الأمر بين فضله سبحانه وعدله، وغلب فضله عدله، وسبقت رحمته غضبه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

قال علي رضي الله عنه: "ما في القرآن آية أحب إلي منها".
 

ثانيًا: ثمرته بالنسبة للعلم نفسه وعلوم الإسلام:
وثمرة علم التوحيد باعتبار العلم نفسه هي حفظ هذا العلم بحفظ قواعده، وأصوله ومسائله، وفي هذا حفظ للدين نفسه؛ لأن العلم الشرعي دين يدان الله تعالى به،  
وإذا كان العلم الشرعي مطلوب الحفظ عامة، فلا شك أن علم الاعتقاد يطلب حفظه على وجه الخصوص؛ لأنه أصل لما عداه؛ ولأنه أول الواجبات وآخرها وألزمها على المكلف،    
وحفظ العلم كما يكون بتعلمه يكون بتعليمه وتوريثه وبذله لطالبيه، وهذا من أفضل القرب وأعلى الرتب،  
-
كما أن من ثمرات تعلم علم التوحيد وتعليمه تحصيل القدرة على إرشاد المسترشدين، وهداية المنحرفين، والوقوف أمام التيارات الإلحادية، والأهواء البدعية، وفي ذلك ثواب المنافحة عن الإسلام، والمدافعة عن السنة،
وعلى الجملة، فدراسة علم التوحيد تفيد الدارس بإخراجه من حضيض التقليد إلى مرتبة اليقين، وتصحيح النية والعقيدة، وتفيد السائل إن كان مسترشدًا بدلالته إلى الحق وبيان الصواب، وإن كان معاندًا بإلزامه الحق بالحجة والبرهان، كما ترجع فوائده إلى تثبيت قواعد الدين بدرء الشبهات والأباطيل، وإقامة ما عداه من العلوم الشرعية، إذ هو أساسها، وإليه يؤول أخذها واقتباسها.


المبحث العاشر: مسائل علم التوحيد
المسائل لغة: جمع مسألة، وهي من السؤال، وهو الطلب.
والمسألة اصطلاحا: مطلوب خبري يبرهن عنه في العلم بدليل1.
وقد يقال: "إن مسائل كل علم هي معرفة الأحوال العارضة لذات موضوع العلم"2.
فإذا كان موضوع علم الفقه -مثلًا- أفعال المكلفين من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها، فإنمسائله هي معرفة أحكام هذه الأفعال، وعلى هذا فإنه إذا كان تعريف علم التوحيد هو "العلم بالأحكام الشرعية العقدية، المكتسب من أدلتها المرضية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية"، وكان موضوع علم التوحيد هو الله تعال، والملائكة، والرسل الكرام، وقضايا اليوم الآخر والغيبيات، فإن مسائله هي معرفة أحكام القضايا الاعتقادية المتعلقة بذلك كله من الوجوب والجواز والاستحالة، وما توقفت عليه تلك الأحكام لاستفادتها على منهج أهل السنة والجماعة.
فمسائل علم التوحيد تتضمن معرفة الأحكام الشرعية العقدية كأحكام الألوهية، وعصمة الرسل، وقضايا اليوم الآخر ونحو ذلك، وقد عنيت كتب العقائد به أعظم عناية، وكتبت في تحريره وتقريبه -على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة- مطولات ومختصرات، ومنظومات ومنثورات من زمن السلف وإلى يوم الناس هذا.
وملحق في آخر هذا الكتاب مبحثان:
الأول: عرض مفصل لأهم مسائل علم الاعتقاد كما حوتها كتب أهل السنة سلفا وخلفا، رتبت على أبواب وفصول، ومباحث ومطالب، لتكون تبصرة للمبتدئ، وتذكرة للمنتهي.
والثاني: نخبة منتقاة من مصنفات أهل السنة سلفا وخلفا في علم الاعتقاد.
مع تعريف مختصر لبعضها، ودراسة موجزة للبعض الآخر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق