الأربعاء، 16 أغسطس 2017

أزكى البشر

أزكى البشر
(تلخيص كتاب "محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه لعايض القرني"

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله الذي قد عم الخلائق رأفة وحنانا، والصلاة والسلام على محمد رسولنا ونبينا ومولانا، طب القلوب ودواؤها، ونور الأبصار وضياؤها، ومن وهدة الكفر أنجانا .وعلى الصحب والآل ومن تبع وسلم عليهم سلاماً يملأ الأكوانا .
  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) } الأحزاب.
صلى عليك الله يا علم الهدى    ما حنّ مشتاق الى لقياكا         وعليك ملء الأرض من صلواتنا     وقلوبنا ذابت على ذكراكا
  الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم جلاء الأبصار، ونور البصائر، وبهجة القلوب، وراحة الأرواح، وقرة العيون، ومسك المجالس، وطيب الحياة، وزكاة العمر، وجمال الأيام، وذهاب الهموم، وطرد الأحزان، وهي الجالبة للسرور وانشراح الصدور وتكامل الحبور وتعاظم النور.
  بها يطيب السمر ويحلو الحديث ويحلّ الأنس وتحصل البركة وتنزل السكينة، يقول صلى الله عليه وسلم:" من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه عشر درجات، وكتبت له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات" وقال:" أكثروا عليّ من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة" وقال:" رغم أنف من ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ" وروي مرفوعا:" البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ" وورد:" إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني من أمتي السلام" ولما قال أبيّ بن كعب: سوف أجعل لك صلاتي كلها، أي دعائي، قال:" إذن يغفر ذنبك، وتكفي همّك"
  فيصلى عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والثاني، وعند ذكره، وفي خطبة الجمعة، والعيد، والاستسقاء، وفي خطبة النكاح، وفي مجلس العلم والمواعظ، والكتب والرسائل، والمعاهدات، والصكوك، وعند لقاء الأحباب، وعند الوداع، وفي الدعاء وأذكار الصباح والمساء، وعند نزول الهموم وترادف الغموم وفقد الأغراض وتزاحم الكرب وحدوث المصاب ووصول المبشرات، وعند تأليف الكتب وشرح حديثه وكتابة سيرته وذكر أخباره وقصصه.. إلى غير ذلك من المناسبات، فصلّى الله عليه وسلم ما زهر فاح، وبلبل صاح، وسر باح، وحمام ناح، وصلى الله عليه وسلم ما نسيم تدّفق وما دمع ترقرق، وما وجه أشرق، وصلى الله عليه وسلم ما اختلف الليل والنهار، وهطلت الأمطار، ودنت الثمار واهتزت الأشجار، وصلى الله عليه وسلم ما بدت النجوم، وتلبدّت الغيوم وانقشعت الهموم، وتليت الأخبار والعلوم، وعلى آله الطيبين الأبرار، وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم واقتفى الك الآثار.     صلى عليه إلهه وخليله    ما دامت الغبراء والخضراء         فهو الذي فاق الأنام كرامة     واستبشرت بقدومه الأنباء

محمد صلى الله عليه وسلم زاهدا:
  كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام.
  وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} الضحى، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:" لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا".
  بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:" لا نورّث، ما تركناه صدقة" أخرجه البخاري [3039، 3712] ومسلم برقم 1758، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل.
  ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.  
بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل.
  ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:" كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل" ويروى  عنه أنه قال:" ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" وقال:" مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها" وقال:" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" وقال:" ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"
الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به المرسلين رحمة وأمانا، والصلاة والسلام على من أوليته بمحمود المقام ومن بالشفاعة يوم الفزع أولانا .

الرسول صلى الله عليه وسلم باكيا:
  البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير، وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف ذنوبه، ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة، مدح الله رسله بالبكاء فقال:{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)} مريم.
  ووصف أولياءه الصالحين بأنهم{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) } الإسراء.
  ولام أعداءه على القسوة والغلظة فقال:{ أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون}.
  وأثنى على قوم فقال:{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } المائدة 83.
  وسيد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. فقد كان نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جياش العاطفة، مشبوب الحشا، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثارا من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة، فهو يبكي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة القرآن، فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله تعالى:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } المائدة، فيبكي غالب ليله.
  وهو يبكي عند سماع القرآن، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن مسعود:"اقرأ عليّ القرآن"، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال:" اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري" فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى بلغ:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً (41)} النساء. قال:" حسبك الآن" فنظرت فإذا عيناه تذرفان. أخرجه البخاري [ 4582، 5055] ومسلم 800 عن بن مسعود.
  وهو يخشع صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فقد صح أنه قام ليلة يستمع لأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح:" لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" أخرجه البخاري 5048 ومسلم 793 عن أبي موسى.
فيقول أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي: جوّدته وحسنته وجمّلته.
  وقال عبدالله بن الشخير في حديث صحيح: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو القدر إذا استجمع غليانا.
  ويحضر صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته زينب، ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر، وتذكر العاقبة والتفكير في ذلك المصير، وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه صلى الله عليه وسلم.
  ويخبر صلى الله عليه وسلم بفضل البكاء من خشية الله، فيذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:"... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" اخرجه البخاري[ 660، 1423، 6806] ومسلم 1031 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عينان لا تمسّهما النار أبدا: عين بكت وجلا من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"
  فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف الله عز وجل، وتذكّر القدوم عليه والوقوف بين يديه والتفكير في آياته الشرعية والكونية. والبكاء من الوفاء، ومن أفضل أعمال الأولياء، خاصة إذا كان ندما من معصية وعند فوت طاعة، ووجلا من عذاب، ورحمة لمصاب، ورقة عند موعظة، وخشية عند تفكّر. ولا يحمد البكاء على الدنيا، فهي أقل وأرخص من يُبكى عليها، فليست أهلا لذلك.
  فكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال.
  ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنيّة، ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحرّكه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه. وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الأحزاب 
  لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف، ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز ولصوته أزيمن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، كلٌّ ينكس رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي.
  يا الله! محمد رسول الله هكذا باكيا أمام الناس، هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير!
  يبكي من قلب ملؤه الخوف من الله، ومن نفس عمَرها حب الله، فتكاد دموعه تتحدث للناس، ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة.                     قد كنت أشفق من دمعي على بصري     فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا

الحمد لله الحليم الكريم أمهلنا، الرحمن الرحيم ستر وغطانا، والصلاة والسلام من مكارم الأخلاق شريعته وبلوغها ميسور إذا صلحت نوايانا .

الرسول صلى الله عليه وسلم ضاحكا:
  الضحك المعتدل بلسم للروح ودواء للنفس وراحة للخاطر المكدود وبعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية، وآية على اعتدال المزاج، وعلامة على صفاء الطويّة.
  وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضحاكا بساما يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ لأنه بُعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه. وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسرا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه، يبتسم عن مثل البرد في وجه أبهى من الشمس، وجبين أزهى من البدر، وفم أطهر من الأقحوان، وخلق أندى من الرياض، وودّ أرق من النسيم، يمزح ولا يقول إلا حقا، فيكون مزحه على أرواح أصحابه أهنى من قطرات الماء على كبد الصادي وألطف من يد الوالد الحاني على رأس ابنه الوديع، يمازحهم فتنشط  أرواحهم وتنشرح صدورهم وتنطلق أسارير وجوههم، فلا والله ما يريدون الدنيا كلها في جلسة واحدة من جلساته، ولا والله لا يرغبون في القناطير المقنطرة من الذهب والفضة في كلمة حانية وادعة مشرقة من كلماته.
  يقول جرير بن عبدالله البجلي: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسّم في وجهي، وجرير يفتخر بهذا العطاء ويعلن هذا السخاء، فهذه البسمة الوارفة الدافئة الصادقة أجلّ عند جرير من كل الذكريات وأسمى من كل الأمنيات.
  يبتسم في وجهه فكفى، يملأ روحه برا وحنانا ولطفا، ويشبع قلبه سماحة ورحمة وودا، ولا تظن المسألة عادية أو أن الموقف سهل بسيطن لأنك ما عشت الحدث وما لابست القضية.
  والرسول صلى الله عليه وسلم في ضحكه ومزاحه ودعابته وسط بين من جفّ خلقه ويبس طبعه وتجهّم محيّاه وعبس وجهه، وبين من أكثر من الضحك واستهتر في المزاح وأدمن الدعابة والخفة، فكان صلى الله عليه وسلم يضحك في مناسبات حتى تبدو نواجذه، ولكنه لم يستغرق في الضحك حتى يهتز جسمه أو يتمايل أو تبدو لهواته، وهي أقصى الحق.
  وقد صحّ عنه أنه قال:" وإيّاك والضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب" أخرجه أحمد 8034 والترمذي 2305 وابن ماجه 4217 عن أبي هريرة رضي الله عنه وانظر البيان والتعريف 1\22 وكشف الخفاء 85.
  وقد ورد أنه مازح بعض أصحابه فقال له: أريد أن تحملني يا رسول الله على جمل، قال:" لا أجد لك إلا ولد الناقة" فولّى الرجال فدعاه وقال:" وهل تلد الإبل إلا النوق؟" أي أن الجمل أصلا ولد ناقة. أخرجه أحمد 13405 وأبو داود 4998 والترمذي 1991 عن أنس بن مالك.
  ويروى أن عجوزا أتته صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يدعو لها بدخول الجنة، فقال:" لا يدخل الجنة عجوز" فولّت تبكي، فدعاها وقال:" أما سمعت قول الله سبحانه:{ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37)} الواقعة. أخرجه الطبراني انظر مجمع الزوائد 10\419
  بل كان ضحكه طاعة لربه تعالى، وفيه من مقاصد الإقتدء والأسوة ما يفوق الوصف، ولم يكن ضحكه عبثا أو لهوا أو تزجية للوقت وقتلا للزمن.
  يركب صلى الله عليه وسلم راحلته مسافرا فيدعو بدعاء السفر ثم يقول:" اللهم اغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" ثم يضحك صلى الله عليه وسلم، فيسأله أصحابه: لم ضحكت يا رسول الله؟ فقال:" يضحك ربك إذا قال العبد: اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا". أخرجه أحمد 932 وأبو داود 2602 والترمذي 3446 عن علي رضي الله عنه.
  ويتلو صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة ويخرج من النار، ويسأل ربه شيئا فشيئا حتى يعطيه الله عشرة أمثال ما تمنّى، فيقول الرجل: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
  فمن هديه صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله إليه ودلّه عليه أنه يعطي كل مقام حقه حتى لا يصلح في ذلك المقام إلا ما فعله صلى الله عليه وسلم، ففي وقت الأنس والفرح والسرور مزاح مقتصد  ودعابة وقورة ومرح معتدل، وفي وقت الموعظة والخوف والتذكر بكاء في خشية ورهبة في ذكرى وتأثر في سكون، فمزاحه تأليف للقلوب، ودعابته أنس للأرواح، وضحكه بلسم للنفوس، بل كل مزحة مكتوبة في دواوين الحديث على أنها سنة، وكل دعابة نقلها الرواة على أنها أثر وخلق من أخلاقه الشريفة، فسبحان من رفع قدره حتى صار ضحكه يحفظ في بطون الأسفار كأنه أعجب قصة من قصص العبر والعظات، وتبارك من شرّف منزلته حتى جعل مزحه يرويه الثقات عن الثقات كأنه فريضة قائمة، فصلى الله عليه وعلى أصحابه وآله ما تنفس صباح وعسعس ليل.

 
يارب طهر قلوبنا من كل عائبة، وأصلح ظواهرنا، وصحح طوايانا، وصل وسلم على من أشرقت شمس الحقائق بمبعثه، إمام المتقين وقائدنا .

الرسول صلى الله عليه وسلم ممدوحا:
محمد .. هذا الاسم الأعلم، إذا ذكر ذكرت معه الفضيلة في أجمل صورها، وذكر معه الطهر في أرقى مشاهده، وذكر معه العدل في أسمى معانيه.
محمد .. اسم كتب بحروف من نور في قلوب الموحّدين، فلو شققت كل قلب لرأيته محفورا في النياط مكتوبا في السويداء، مرسوما في العروق.
  بشّرت به الرسل، وأخبرت به الكتب، وحفلت باسمه التواريخ، وتضوعت بذكره المجامع، وصدحت بذكراه المنائر، ولجلجت بحديثه المنابر.
  عصم من الضلالة والغواية:{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) } النجم، وحفظ من الهوى:{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} النجم...
  فكلامه شريعة، ولفظه دين، وسنته وحي{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}النجم..
  سجاياه طاهرة، وطبيعته فاضلة، وخصاله نبيلة، ومواقفه جليلة{ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) }النمل.
  تواضعه جمّ، وجوده عمّ، ونوره تمّ، فهو مرضي الفعال، صادق الأقوال، شريف الخصال{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) } القلم.
  ليّن الجانب، سهل الخليقة، يسير الطبع{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } آل عمران 159.
  ظاهر العناية، ملحوظ بعين الرعاية، منصور الراية، موفق محظوظ، مظفّر مفتوح عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) } الفتح.
  أصلح الله قلبه، وأنار له دربه، وغفر له ذنبه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح 2.
  فهو المصلح الذي عمر الله به القلوب، وأسعد به الشعوب، وأعتق به الرقاب من عبودية الطاغوت، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)}
  وهو الذي أعفى البشرية من التكاليف الشاقة، وأراحها من المصاعب، وسهل لها بإذن الله أمر الحياة،{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
  فهو رحمة للإنسان، إذا علّمه الرحمن، وسكب في قلبه نور الإيمان، ودلّه على طريق الجنان..
  وهو رحمة للشيخ الكبير، إذ سهّل له العبادة، وأرشده لحسن الخاتمة، وأيقظه لتدارك العمر واغتنام بقية الأيام..
  وهو رحمة للشاب إذ هداه إلى أجمل أعمال الفتوة وأكمل خصال الصبا، فوجّه طاقته لأنبل السجايا وأجلّ الأخلاق..
  وهو رحمة للطفل، إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة، وأسمعه ساعة المولد أذان التوحيد، وألبسه في عهد الطفولة حلة الإيمان..
وهو رحمة للمرأة، إذ أنصفها في عالم الظلم، وحفظ حقها في دنيا الجور، وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها، فعاش أبا للمرأة وزوجا وأخا ومربيا..
  وهو رحمة للولاة والحكام، إذ وضع لهم ميزان العدالة، وحذّرهم من متالف الجور ، وحدّ لهم حدود التبجيل والاحترام والطاعة في طاعة الله ورسوله..
  وهو رحمة للرعية، إذ وقف مدافعا عن حقوقها محرما الحيف ناهيا عن السلب والنهب والسفك والابتزاز والاضطهاد والاستبداد.
  إذا فهو رحمة للجميع ونعمة على الكل:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} الأنبياء.
وكان إذا تكلم علاكلامه حدود النفس وتجاوز أقطار الروح فغاص حديثه في أعماق الأفئدة ونقش لفظه في صفحة الذاكرة وخطّ على سويداء القلوب.
  وكان إذا ضحك ملأ المكان أنسا، وأتحف الحضور بشرا، وعبّأ جلاسه سعادة وحفاوة.
  وكان إذا بكى خشع لبكائه الناس، وذرفت كل عين مخزونها، وأخرجت كل نفس مكنوناتها، فكأن نذر القيامة على الأبواب، وكأن رسل الموت وقوف على الرؤوس، فلا ترى إلا دموعا وخشوعا وخضوعا وإطراقا:{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)} النجم.
وكان إذا خطب هز المنابر، وأيقظ الضمائر، وألهب السامعين، فلو أن للصخر عينا لبكت، ولو أن للجدار نفسا لخشعت، ولو أن للأيام أذنا لأنصتت.  
  وكان إذا قاتل ثبت ثبوت الرجال، وتقدّم تقدّم السيل، وصمد صمود الحق {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} النساء 84.
وكان إذا جاد بلغ المدى في السخاء، وفعل ما لم تفعله الأنواء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويهب هبة من أرخص الدنيا وزهد في الحطام
  يعطي ما يملك في ساعة، ويهدي ما عنده في لحظة، هانت عليه الدنيا فمنح أجلاف العرب مئات الإبل، ورخصت عنده الأموال فجاد بالغنائم على مسلمي الفتح:" والذي نفسي بيده، لو أن لي بعدد عضاة تهامة مالا لأنفقته ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" مالك في الموطأ 977.
  سئل قميصه فخلعه وأعطاه، وجاد بقوته فعصب بطنه على حرّ الجوع وبلواه.. جود حاتم والسمعة والرياء، وجود خاتم الأنبياء لمرضاة رب السماء.
  وكان إذا عفا على الجاني أسره بإحسانه، فلا يعاتبه ولا يطالبه.. ينسى الإساءة ويدفن الزلة ويمحو بحلمه لذنب، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}
  قاتله قومه ونازلوه، فآذوه وشتموه، وطردوه وجرحوه، فلما انتصر عفا وصفح، وصاح صيحته المشهورة وكلمته العامرة:"اذهبوا فأنتم الطلقاء".
  أنشودة أخلاقه:" إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني".
  كل خلق كريم في القرآن فهو مترجم في سيرة هذا الإنسان، ولذلك قالت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن.
  وكان إذا وعد وفى، فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد، مع حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة، ، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة، فهل الصدق إلا ما كان عليه؟ وهل الأمانة إلا منه وإليه؟   لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده.
محمد صلى الله عليه وسلم محبوبا:
  {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ }   " لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 
  من يطالع سيرة الصحابة يرى ذلك الحب الصادق الفياض لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حبا يستولي على النفس ويملك  المشاعر، حبا لا يعدله حب الولد والوالد والابن والزوجة، حبا يصل شغاف القلب ويمازج قرار الروح.
  ولكن لماذا أحبّوه هذا الحب؟ إذ لا يوجد في التاريخ كله قوم أحبّوا إمامهم أو زعيمهم أو شيخهم أو قائدهم أو أستاذهم كما أحبّ أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم حتى افتدوه بالمهج، وعرّضوا أجسامهم للسيوف دون جسمه، وضحوا بدمائهم لحمايته، وبذلوا أعراضهم دون عرضه، فكان بعضهم لا يملأ عينيه من النظر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، ومنهم من ذهب الى الموت طائعا ويعلم أنها النهاية وكأنه يذهب الى عرس، ومنهم من احتسى الشهادة في سبيل الله كالماء الزلل، لأنه أحبّ محمدا ودعوته. بل كانوا يتمنون رضاه على رضاهم، وراحته ولو تعبوا، وشبعه ولو جاعوا، فما كانوا يرفعون أصواتهم على صوته، ولا يقدمون أمرهم على أمره، فهو المطاع المحبوب، والأسوة الحسنة، والقدوة المباركة.
  أما دواعي هذا الحب وأسبابه، فأعظمها أن هذا الإنسان هو رسول الرحمن، وصفوة الإنس والجان، أرسله الله ليخرجهم من الظلمات الى النور، ويقودهم الى جنة عرضها السموات والأرض.
  ثم  إنهم وجدوا فيه صلى الله عليه وسلم الإمام الذي كملت فضائله وتمّت محاسنه، فقد أسرهم بهذا الخلق العظيم والمذهب الكريم، فوجدوا في قربه واتباعه جنة وارفة من الإيمان، بعد نار تلظى من الكفر والجاهلية، فهو الذي غسل أرواحهم بإذن الله من أوضار الوثنية، وزكّى نفوسهم من آثام الشرك، وطهّر ضمائرهم من لوثة الأصنام، وعلمهم الحياة الكريمة. ملأ صدورهم سعادة بعد عمر من القلق والاضطراب والغموم والهموم، بنى في قلوبهم صروح اليقين بعد خراب الشك والريبة والانحراف.
  كانوا قبل دعوته كالبهائم السائمة، لا إيمان، ولا أدب ولا صلاة، ولا زكاة، ولا نور، ولا صلاح، حياة مظلمة من عبادة الأصنام وملابسة الفواحش ومعاقرة الخمر وسفك الدماء والسلب، فليس لهم في الحياة رسالة، وما عندهم عن الله خبر وما لديهم من أمر الدنيا نبأ، فهم في غيّهم يعمهون.
  قلوب أقسى من الحجارة، ونفوس أظلم من الليل، وبؤس أشد بشاعة من الموت، فلا عقل محفوظ، ولا دم معصوم، ولا مال حلال، ولا عرض مصان، ولا نفوس راضية، ولا أخلاق قويمة، ولا مجتمع يحترم الفضيلة، ولا شعب يحمي المبادئ.
  فلما أراد الله إنقاذ هذه البشرية وإسعادها وصلاحها وفلاحها بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، فكأن الناس ولدوا من جديد، وكأن وجه الدنيا تغير، وكأن الأرض لبست ثوبا آخر، فالوحي يتنزل على هذا الإمام من لدن لطيف خبير، وجبريل يغدو ويروح بشريعة نسخت الشرائع، فيها سعادة العباد، وصلاح البشر، وعمارة الأرض.. فمسجد يبنى، ورقبة تعتق، وصدر يعمر، وجسد يطهر، وصلاة تؤدى، ومصحف يتلى، وآية تفسّر، وحديث يشرح، وراية تعقد، وحضارة تبنى، وأمة تحرّر { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) } الجمعة.
لقد أحبّ الصحابة  رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه وصلهم بالله ودلّهم على رضوانه، وهداهم الى صراطه المستقيم. وإنهم لمعذورون في هذا الحب لأنه أقل ما يجب عليهم نحو هذا الرسول المعصوم والنبي الخاتم، الذي جاء إليهم وهم عاكفون على أصنامهم، فصاح بهم :"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" أخرجه أحمد 18525 والحاكم 39، وصلى بهم وقال:" صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري 631، وحجّ بهم وقال:" خذوا عني مناسككم" أخرجه مسلم  1297، وعلمهم السنة وقال:" من رغب عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري 5063 ومسلم 1401، ودعاهم الى التقوى وقال:" إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" أخرجه البخاري 20. فالله أنقذهم به من النار، وبصّرهم من العمى، وعلّمهم به من الجهل، وأصلحهم بعد الفساد، وهداهم بعد الضلالة، وأرشدهم بعد الغي.
  كيف لا يحبه أصحابه بل كل مسلم وهو لا يزاول طاعة إلا والرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيه في طهارته وصلاته  وصيامه وزكاته وحجّه وذكره وعقيدته وخلقه وسلوكه، كيف لا يحبه وكلما فعل خيرا فإنما إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، أو قام بقربة فقدوته محمد صلى الله عليه وسلم، أو أحسن في حياته فأسوته محمد صلى الله عليه وسلم، أو أسدى جميلا أو قدّم معروفا فمثله الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم.
  كيف لا يحبه الإنسان وحديثه يرنّ في الأذن ويعبر الى القلب بكل فضيلة وكل خلق شريف وسجايا  نبيلة، داعيا الى الصدق والعدل والسلام والرحمة والتآخي والإحسان، محذرا من الفجور والفسوق والعصيان والظلم والاعتداء والبغي والإجرام.. فميلاد الإنسان الميلاد الثاني يوم اتبع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتدى بهذا النبي الأمي:         أخوك عيسى دعا ميتا فقام له         وأنت أحييت أجيالا من الرمم
  وسعادة العبد إنما هي في الاهتداء بهدي هذا الإمام المعصوم، لأنه الوحيد من الناس الذي يدور معه الحق حيثما دار، فعلى قوله تعرض الأقوال، وعلى فعله توزن الأفعال، وعلى حاله تقاس الأحوال:{وإنّك لتهدي الى صراط مستقيم}. من نحن قبلك إلا نقطة غرقت     في اليمّ أو دمعة خرساء في القدم

محمد صلى الله عليه وسلم مباركا:
  {مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) } مريم.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا    كفى بالمطايا طيب ذكرك هاديا        وإني لأستغثي وما بي غشوة      لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
  كانت البركة فيه ومعه وعنده عليه الصلاة والسلام، فكلامه مبارك، يقول الكلمة الموجزة فتحمل في طياتها العبر والعظات ما يدهش لروعتها العقل حسنا وبلاغة، ويلقي الخطبة فيجعل الله فيها من النفع والتأثير والبركة ما يبقى صداه في الأجيال جيلا بعد جيل.
  والبركة في عمره صلى الله عليه وسلم، فقد عاش ثلاثا وعشرين سنة في إبلاغ رسالته ليس إلا، فكان في هذه الفترة الوجيزة من الفتح والنصر والنفع والعلم والإيمان والإصلاح ما لا يقوم به غيره في قرون ولا دهور، ففي ثلاث وعشرين سنة فحسب، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وعلّم القرآن ونشر السنة، وقضى على الكفر، وأسّس دولة العدل، وأقام أعظم حضارة راشدة عرفتها الإنسانية.
  وانظر الى بركة يوم واحد من أيامه عليه الصلاة والسلام، وهو يوم النحر، اليوم العاشر من حجه صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال، ففي هذا اليوم الواحد صلى الفجر بمزدلفة ودفع الى منى وهو يلبّي ويذكر الله ويدعوه، ويعلم الناس المناسك، ويفتي الحجاج، ثم رمى جمرة العقبة، ثم حلق ثم نحر ثم ذهب الى المسجد الحرام فطاف، ثم صلى الظهر، وهو مع ذلك يرشد الناس ويوجّههم.. هذا إلى صلاة الظهر فقط، مع أن وسيلة النقل ناقته صلى الله عليه وسلم، مع بعد المسافة وكثرة الزحام وحرارة الجو ووقوفه للناس يسألونه، فسبحان من بارك في لحظات عمره ودقائق حياته:
مرّت سنين بالسعود وبالهنا          فكأنها من حسنها أيام
  وبورك له صلى الله عليه وسلم في آثاره، فقد مرّ بصاحب قبرين يعذبان، أحدهما كان لا يتنزه من البول، والآخر كان يمشي بالنميمة بين الناس، فشقّ صلى الله عليه وسلم عصا خضراء كانت معه وغرسها على القبرين وقال:" أرجو أن يخفف عنهما من العذاب حتى تيبسا" أخرجه البخاري [216، 218] ومسلم 292 عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا خاص به، ولا يكون إلا له صلى الله عليه وسلم، لما جعل الله فيه من البركة.
ومرض علي ابن أبي طالب بالرمد يوم خيبر،  حتى أصبح لا يرى شيئا، فنفث عليه صلى الله عليه وسلم فأبصر بإذن الله في الحال لبركة دعائه ونفثه:
مرض الحبيب فزرته      فمرضت من خوفي عليه            وأتى الحبيب يزورني    فشفيت من نظري إليه
  وكان الجيش في الخندق ألف رجل قد بلغ بهم الجوع مبلغا عظيما، فدعا جابر بن عبدالله الرسول صلى الله عليه وسلم وثلاثة معه على عناق من ولد الماعز ذبحها وشيء من طعام الشعير، فدعا صلى الله عليه وسلم الجيش جميعا وسبقهم، ودعا على الطعام ونفث، ثم أدخلهم عشرة عشرة، فأكلوا جميعا وشبعوا جميعا وبقي الطعام بحاله، ووزع على أهل المدينة، فما بقي بيت إلا دخله من ذلك الطعام. فلا إله إلا الله! يا لها من معجزة باهرة وآية ظاهرة على صدقه وبركنه ونبوّته:     علوّ في الحياة وفي الممات   بحق فيك كل المعجزات        عليك تحية الرحمن تسري      بتبريك عواد رائحات
  وسافر معه جيش قوامه ألف وأربعمائة رجل، فانتهى ماؤهم وأشرفوا على الهلاك، وانقطعوا في البيداء، فدعا صلى الله عليه وسلم بقربة صغيرة فيها قليل من ماء، فصبّه على يده الشريفة الطاهرة المباركة، فثارت من بين أصابعه أنهار الماء، فملأ الناس أوعيتهم وعبأوا قربهم وسقوا رواحلهم، وشربوا وتوضؤوا واغتسلوا جميعا { أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)} الطور.         وأبيض يستسقى الغمام بوجهه       ثمال اليتامى عصمة للأرامل
  فحيّا الله ذاك الكف الطاهر المبارك الذي ما خان ولا غش ولا غدر ولا نهب ولا سلب ولا سرق ولا سفك.
يد بيضاء لو مدّت بليل         عظيم الهول أشرقت الليالي
  وزار صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وهو مريض ملتهب الجسم، فوضع يده المباركة على صدر سعد، فوجد بردها كالثلج فشفي بإذن الله. يقول سعد بعد سنوات طويلة: والله لكأني أجد بردها الآن على صدري.
  ورشّ صلى الله عليه وسلم بقية وضوئه على جابر بن عبدالله وهو مريض فشفي بإذن الله، وحلق رأسه صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر، فأعطى شقّه الأيمن أبا طلحة الأنصاري لأن صوته في الجيش كمائة فارس جائزة له، والنصف الآخر وزع على الناس، فكادوا يقتتلون عليه، فمنهم من حصل على شعرة، ومنهم من تقاسم هو وصاحبه شعرة واحدة، ومنهم من كان يضع هذه الشعرة في الماء إذا أراد أن يشرب.
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه        وعراف نجد إن هما شفياني              فوالله ما من رقية يعلمانها      ولا شربة إلا بها سقياني
فجئت الى المعصوم حتى أعلّني          بشربة حقّ من هدى وبيان
  ومسح صلى الله عليه وسلم رأس أبي محذورة وهو صغير، فأقسم أبو محذورة لا يحلق هذا الشعر الذي مسّه كف الرسول صلى الله عليه وسلم، فبقي طيلة حياته حتى طال ودفن معه.      وكان الصبيان يأتونه صلى الله عليه وسلم بآنيتهم فيضع كفه المبارك في إناء الماء واللبن، فيجدون فيه البركة والشفاء بإذن الله.        وقصص بركته لا تنتهي، وأحاديث معجزاته لا تنقضي، فهو المبارك أينما حل وأينما ارتحل، وهو الموفّق أينما سار وأقام.
يا رب صلّ وسّلم ما أردت على             نزيل عرشك خير الرسل كلهم

الرسول صلى الله عليه وسلم مربيا:
  { يتلوا عليكم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} .
هديتنا لسبيل الحق نسلكه     مسّكتنا حبل هدى غير منصرم           أنت الإمام الذي نرجو شفاعته     وأنت قدوتنا في حالك الظلم
  كان صلى الله عليه وسلم مربيا كملت مناقب المربي فيه، فهو رفيق في تعليمه ويقول:" إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" أخرجه البخاري 6927 ومسلم 2593 عن عائشة رضي الله عنها. ويقول:" ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" أخرجه مسلم 2594 عن عائشة رضي الله عنها. وكان يصل الى قلوب الناس بألين السبل حتى قال فيه ربه عز وجل:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } آل عمران 159. فهو أعظم من تمثل خلق القرآن، فتجده القريب منالنفوس، الحبيب الى القلوب.
  جاءه أعرابي فقال في التشهد: الله ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له صلى الله عليه وسلم:" لقد حجرت واسعا" أخرجه البخاري 6010 عن أبي هريرة. أي أنه ضيّق رحمة الله التي وسعت كل شيء، ثم قام الأعرابي فبال في طرف المسجد، فأراد الصحابة ضرب الأعرابي، فمنعهم صلى الله عليه وسلم ودعا بدلو من ماء فصبّه على بول الأعرابي، ثم دعا الأعرابي برفق ولين وحسن خلق فقال:" إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر، وإنما هي للصلاة والذكر وقراءة القرآن" أخرجه مسلم 285 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. فذهب هذا الأعرابي الى قومه لما رأى منا لرفق واللين، فدعاهم الى الإسلام فأسلموا.
  وجلس معه صلى الله عليه وسلم غلام على مائدة الطعام، فأخذت يد الغلام تطيش في الصحفة، فما نهره ولا زجره وإنما قال له برفق:" سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك" أخرجه البخاري [ 5376، 5378] ومسلم 2022 عن عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنه.
  ودخل اليهود عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، يعني الموت، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال صلى الله عليه وسلم:" يا عائشة، ما هذا؟ إن الله يكره الفحش والتفاحش، وقد رددت عليهم ما قالوا، فقلت: وعليكم" أخرجه البخاري [ 2935، 6030] ومسلم 2165 عن عائشة رضي الله عنها. وليس في قاموس حياته صلى الله عليه وسلم ولا في معجم أدبه كلمة نابية ولا بذيئة ولا فاحشة، وإنما طهر كله ونقاء وصفاء ولين ووفاء، لأنه رحمة مهداة، ونعمة مسداة، وبركة عامة، وخير متصل.
  وكان صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهية السآمة والملل عليهم، أي يتركهم فترات من الزمن بلا وعظ ليكون أنشط لنفوسهم وأروح لقلوبهم، فكان إذا وعظهم أوجز وأبلغ، وكان ينهى عن التطويل على الناس وإدخال المشقة عليهم، سواء في الصلاة أو الخطب، ويقول:" إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه" أخرجه مسلم 869 عن عمار رضي الله عنه. أي علامة على فقهه، فقصّروا الخطبة وأطيلوا الصلاة.
وأنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم فقال:" دعهم يا عمر، ليعلم يهود أن في ديننا فسحة" أخرجه أحمد عن عائشة
  ودخل أبو بكر عليه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان تغنيان يوم العيد، فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" دعهم يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" أخرجه البخاري [ 952، 3931] ومسلم 892 عن عائشة رضي الله عنها.
  وسأل صلى الله عليه وسلم عائشة عن زواج حضرته للأنصار:" هل كان معكم شيء من لهو؟ ـ أي من طرب ـ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" أخرجه البخاري 5163 عن عائشة رضي الله عنها. كل هذا في حدود المباح الذي يريح النفس ويذهب عنها السأم والملل، أما الحرام فكان أبعد الناس عنه صلى الله عليه وسلم.
  وكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه بالقدوة الحيّة الماثلة فيه صلى الله عليه وسلم، فكان يدعوهم الى تقوى الله وهو أتقاهم، وينهاهم عن الشيء فيكون أشدّهم حذرا منه، ويعظهم ودموعه على خدّه الشريف، ويوصيهم بأحسن الخلق، فإذا هو أحسنهم خلقا، ويندبهم الى ذكر الله وإذا به أكثرهم ذكرا، ويناديهم الى البذل والعطاء ثم يكون أسخاهم يدا وأكرمهم نفسا، وينصحهم بحسن العشرة مع الأهل، ثم تجده أحسن الناس لأهله رحمة وعطفا ورقة ولطفا: يا صاحب الخلق الأسمى وهل حملت  روح الرسالات إلا روح مختار**أعلى السجايا التي صاغت لصاحبها  من الهدى والمعالي نصب تذكار
  والعجيب توصّله صلى الله عليه وسلم الى غرس هذه الفضيلة في نفوس أصحابه غرسا بقي بقاء حياتهم، ودام دوام أعمارهم ونقله الأتباع عنهم، وأتباع الأتباع عن الأتباع الى اليوم، فكان إذا لقيه الرجل يوما من الدهر أو ساعة من الزمن وآمن به، ترك عليه من الأثر ما يبقى ملازما له حتى الموت، فكأن ليس في حياة هذا الرجل إلا ذلك اليوم أو تلك الساعة التي لقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد يضيق العمر إلا ساعة   وتضيق الأرض إلا موضعا
  وما ذاك إلا لصدق نبوته عليه الصلاة والسلام وبركة دعوته، وعظيم إخلاصه وجلالة خلقه ونبل فضائله:
فعليه ما سجع الحمام سلامنا     فيه إله العالمين هدانا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق